بقلم ملحة عبدالله: لماذا قناع الضاحك الباكي؟

الضحك والبكاء يؤديان بدوريهما للذة والسرور أو الأسى والكدر، وذلك يدل على التخلص من الطاقة الزائدة في النفس عن طريق التوتر والقلق والترقب الزائد، ما يؤدي إلى الاسترخاء والشعور بالراحة، ومن ثم المتعة نتاج ذلك الأنس الذي تأنسه النفس جراء هذا التوازن، ولا تنفر من المسرح بل تأنسه أنس الذات لذاتها..
من الأخطاء الشائعة لدى البعض لمفهوم المسرح هو الضحك، وهو خطأ جسيم، أذكر حينما قدمت دعوة لأحد كبار المسؤولين دعوة للمسرح سألني قائلا: سنضحك؟
إن للمرح وظيفة جليلة وجد من أجلها، ويجب على النقاد التوجيه والتوعية لهذه الوظيفة، فالضحك أو البكاء وهما "ظاهرة السرور والكدر" هما من خصائص التلقي المسرحي والدرامي لما يثيره هذان الانفعالان من وظيفة نفسية فسيولوجية.
فلقد أظهرت دراسات عدة أن الضحك يساعد على خفض الشعور بالألم، فالضحك يساعد على إفراز هرمونات تسمى بيتا أندروفين في المخ وهذه المادة بدورها تؤثر في المستقبلات الحسية وتخفض حساسية الألم التي تصنعها التراجيديا في ثنيات العمل المسرحي. ثم يربط انفعال الضحك وانفعال البكاء في أن كليهما يحقق السعادة والمتعة وهي وظيفة من وظائف المسرح سواء في الكوميديا أو التراجيديا عن طريق السرور والكدر. لأن المسرح بكل عناصره من لون وصوت وكلمة يؤثر على مادة الـ"بيتا أندروفين" وبالتالي يؤثر في كيمياء المخ، ومن هنا يحدث السرور أو الكدر وقد يدفعه إلى اتخاذ القرار وهو أخطر ما في الأمر.
ارتبطت فكرة الانفعالات المختلطة بالتراث الشرقي، وفي أفكار عقيدة الزن Zan البوذية، وفي فكرة الين واليانج أيضاً، ولم ترَ الثقافات القديمة أي تناقض في هذا الاختلاط الظاهري بين الانفعالات وتصنيفها، مثلما فصلوا بين المعادن والنبات والحيوانات والصخور.. الخ وصنفوها. إن ظاهرة "الذات المختلطة" كما يسميها أفلاطون: حيث زواج الضحك بالبكاء، والبهجة بالأسى، واللذة بالألم، كانت أمراً شائعاً ومعروفاً عبر تاريخ الضحك.
وبما أن هذين الانفعالين يؤديان بدوريهما للذة والسرور أو الأسى والكدر، فذلك يدل على التخلص من الطاقة الزائدة في النفس عن طريق التوتر والقلق والترقب الزائد ما يؤدي إلى الاسترخاء والشعور بالراحة ومن ثم المتعة نتاج ذلك الأنس الذي تأنسه النفس جراء هذا التوازن ولا تنفر من المسرح بل تأنسه أنس الذات لذاتها.
يبدو أن التعصب الديني الذي بدأ نشاطه مع أوائل القرن السادس عشر (الحركة اللوثرية) في ألمانيا وتتوسع لتشمل معظم دول أوروبا في ذلك الوقت قد أثر في آراء نقاد ومفكري وكتاب هذا القرن الذين دافعوا عن الشعر والمسرح مؤكدين الدور الحيوي الأخلاقي الذي يؤديه هذا الفن.. ونذكر منهم المؤلف الفرنسي ليون دي سومي "1527-1592" الذي عرف المسرح من خلال الدراما: هي محاكاة لحياة البشر تهاجم الرذائل وتبغضها وتمجد الفضائل وتحث الشعب على اتباعها.. أما فليب سيدني "1554-1586" فقد كتب مقاله الشهير (دفاع عن الشعر) ليرد به على ادعاءات جماعات المتطهرين (المتعصبين الدينيين) الذين رأوا أن الشعر وحي من الشيطان، وقد انطوت هذه المقالة على عدة مبادئ نقدية مهمة تركت بصماتها فيما بعد على مسيرة النقد المسرحي في القرون التالية. نذكر من هذه المبادئ تأكيده على فطرية الشعر كـ(محاكاة) فهو تراث إنساني شائع في كل زمان ومكان.
كل ذلك تأكيد على الوظيفة النفعية للشعر عن طريق تمجيده للحق وتنمية الأخلاق وغرس الفضائل، ثم أخذ سيدني يفند حجج معارضي الشعر ويقيم الدليل على عكسها، فيقول ردا على ادعاء المثاليين: إن للشعر تأثيره على عواطف وأذهان الناس وخاصة الشباب بما يتنافى ومصالح الجماعة فيؤكدون القيم الروحية التي يتضمنها الشعر بمفهومه الحقيقي لا يمكن وأن تتعارض مع مصالح الكثير، وإن وجد شيء من هذا القبيل فهو موجود في الشعر الرديء الذي لا يصل بصاحبه للشاعرية الحقة.
ويرى الفلاسفة المسلمون أن الشعر كاذب لأنه يصدر من المتخيلة، وأن ما يكسبه صفة الصدق أو الكذب هو البرهان المنطقي، ولذلك جعلوا العقل هو الحجة القائمة على إثبات مصداقية الشعر، فالعقل لديهم هو المعيار الذي يستند إليه الإبداع. إلا أن فيليب سيدني يرى أن الشعر ليس من خصائصه الكذب أو الصدق، لكنه يبتكر عالما مثاليا حقائقه روحية ونفسية مستمدة من الوقائع البشرية، ويستمد سيدني من هوراس كلمته أن الشاعر يمتع ويعلم ليضيف إليها. فتعليمية الشعر والمسرح هي الوظيفة الأولى لدى كل من هوراس وسيدني فيقول: "إن الشاعر يحاول أن يحاكي، وهو يحاكي ليمتع ويعلم، يمتع ليدفع الناس إلى معانقة الفضيلة التي لولا المتعة لفروا منها كما يفر المرء من الغريب، ثم إنه يعلم ليجعلهم يدركون أن الفضيلة هي ضالتهم وهو نبل توجيه الجميع اليه؛ أي التعليم".
ويعلق دافيد ديتشز على فيليب سيدني أن إصراره على جعل وظيفة الشعر خلق عالما مثاليا من الذهب بدلا من عالم الواقع المعاش مكنه من خلق نظام للأنواع الأدبية، فاستطاع الدفاع عن الهجاء الساخر "الساتير" بأنه ذلك النوع الذي جعل الإنسان يضحك من حماقته وهي تلك الازدواجية بين السرور والكدر، وعن الملهاة أنها تجعل الأخطاء الشائعة في الحياة مثيرة للهزء، وعن المأساة أنها تبين النتائج الرهيبة للطغيان ما يجعل الملوك يخشون أن يكونوا طغاة، إلا أن الشعر المفضل لدى "سيدني" هو ذلك الذي يصور تصويرا مباشرا ذلك النوع من الفضائل التي ينبغي أن يساق إليها القراء، وهو كما أشار سيدني الشعر البطولي أو الملحمي.
إن فيليب سيدني بدفاعه عن الشعر قد وقف أمام هجوم أفلاطون وجماعة المتطهرين واكتشف في سبيل ذلك معياراً للشعر مؤكدا على المضمون الأخلاقي التعليمي، لكنه فصل بين الصورة والمادة، أي بين الشعر والمحاكاة (صورة) و(المادة) المستمدة من الواقع كموضوع للمعاناة مخالفاً أرسطو، فلم يبرر سيدني لوجود الشعر بإفراد الخصائص المميزة التي يجب أنه يدرك بها مفهوم الشعر لكنه يذهب مذهب أفلاطون في تطبيق مقياس تقييم واحد هو المضمون التعليمي الأخلاقي، ولكنه على عكس أفلاطون والمثاليين يخلص إلى أن العاطفة ليست من الشيطان بل يمكن اصطناعها لغرض الفضيلة وأن الشعر أقوى أثراً من حيث التعليم الأخلاقي من الفلسفة والتاريخ.
لذلك نجد أن سيدني قد استبدل كلمة الخوف بكلمة الدهشة في معرض قصيدته عن المأساة البطولية، ففي مجال البطولات يرى أنه لا يوجد مجال للخوف بل هناك مدعاة للإدهاش والإعجاب بالبطولة.
لقد كانت المسرحيات البطولية من أبرز مميزات مسرح العودة إلى الملكية في انجلترا في القرن السابع عشر، وهي أشبه بالملاحم، وهذه المسرحيات البطولية تأثرت ولا شك بالمسرح الإنجليزي الإليزابيثي واليعقوبي المتميز بأعمال شكسبير ومعاصريه والتي لم تكن تلقي بالاً كبيراً لشروحات وأفكار وقواعد نقاد عصر النهضة المستقاة والمقتدى بها لفن الشعر لأرسطو.
وبذلك كان شعار المسرح منذ بدايته هو ذلك الوجه الضاحك الباكي في الوقت نفسه إلى يومنا هذا.