بقلم هادي اليامي: حقوق الإنسان بين المبادئ السامية والمصالح السياسية
الأربعاء 15/يناير/2025 - 09:08 م
لا يتجادل اثنان على أهمية كفالة حقوق الإنسان وصيانة الحريات الشخصية وحمايتها، فهي من البديهيات التي أقرتها جميع الأديان السماوية والقوانين الوضعية. وخلال العصر الذي نعيشه أصبحت هذه القضية من أهم القضايا المطروحة على الساحتين الإقليمية والعالمية، ولا تكاد تخلو وسيلة إعلامية من ذكرها يوميًا، كما تُعقد لأجلها المؤتمرات العالمية.
ولم تكن المملكة العربية السعودية بعيدة عن ذلك، فقد اتخذت العديد من الخطوات الجادة لترسيخ حقوق الإنسان، وصادقت على المواثيق الدولية المتعلقة بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والتمييز ضد المرأة، واتفاقية مناهضة التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة والعقوبة القاسية أو غير الإنسانية والمهينة، واتفاقية حقوق الطفل، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية الطفل بشأن تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية الطفل والمتعلق بتجريم بيع الأطفال واستغلالهم، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والميثاق العربي لحقوق الإنسان، وغير ذلك من القوانين ذات الصلة، وهو ما يعني أنها منخرطة بشكل جَدّي في المنظومة القانونية الدولية لحقوق الإنسان.
كل هذا مما لا خلاف عليه، لكن هناك جانب آخر للأمر يتمثل في محاولة تطويع بعض الدول لمفهوم حقوق الإنسان، لا سيما الحق في حرية التعبير وذلك لخدمة أجندة سياسية هي أبعد ما تكون عن المفهوم الحقيقي لتلك الحقوق.
فالكثير من المجرمين والمخالفين للأنظمة والقوانين والتشريعات والخارجين على دولهم في المنطقة العربية والدول الإسلامية لجؤوا إلى دول غربية ونالوا حق اللجوء السياسي بعد زعمهم أنهم يتعرضون للاضطهاد في دولهم وأنهم يخشون على حياتهم إذا تم ترحيلهم، إلى غير ذلك من المزاعم.
ولم تكتف كثير من الدول الغربية باحتضان هؤلاء وتوفير الملاذ لهم، بل رفضت تسليمهم إلى بلدانهم رغم تعدد المطالبات. لكن انقلب السحر على الساحر وكشف أولئك الخارجون على القانون عن وجوههم الحقيقية وقاموا بارتكاب أعمال إرهابية في الغرب، وهو ما أثبت بالدليل القاطع أن مطالبة بلدانهم باستعادتهم لم تكن قائمة على أي أهداف سياسية، بل هي نتيجة لإجراءات أمنية وقانونية بحتة.
آخر الأمثلة على ذلك هو ما أقدم عليه طالب العبد المحسن الذي ارتكب في أواخر ديسمبر الماضي جريمة دهس عشرات الأشخاص في ألمانيا وتركهم بين قتيل وجريح وهي الجريمة التي أذهلت كل من شاهدها على شاشات الفضائيات بسبب الرغبة الآثمة في إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا، حيث تعمد السير بسرعة فائقة وسط حشد هائل من المواطنين الألمان الذين كانوا يحتفلون بأعياد الميلاد.
وبمجرد وقوع الحادث كشفت السلطات السعودية أنها حذرت نظيرتها الألمانية عدة مرات من خطورة هذا الرجل وما يمكن أن يفعله، وقدمت الأدلة على ذلك مما كان يكتبه بنفسه على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقدمت الرياض بطلب رسمي لتسلمه، لكن برلين أحجمت عن ذلك بذريعة حماية حقوق الإنسان.
هنا تنشأ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات شافية ومقنعة، فهل الحق في التعبير أكثر أهمية من الحفاظ على النفس البشرية وضمان الأمن العام والسلم المجتمعي؟ وهل هناك حرية مطلقة بلا قيود ولا وازع ولا حدود؟ وإذا ما تصادمت حرية التعبير للأفراد مع حقوق المجتمع كله فأيهما أولى بالحفاظ عليه؟ وهل حرية التعبير تعني بالضرورة تجاوز القوانين ومصادمة الثوابت والاعتداء على الآخرين؟
ولأن الحرية إذا كانت مطلقة وبلا سقف فهي أكبر مداخل الفوضى والانفلات والإرهاب، لذلك جاءت الحاجة إلى سن القوانين ووضع الأنظمة ووضع العقوبات والجزاءات التي تحمي حقوق الدولة والمجتمع، كما ظهرت المقولة المشهورة بأن «حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين».
لذلك فإن الحقيقة الواضحة هي أن كثيرًا من الدول الغربية التي ترفض تسليم المجرمين المطلوبين إلى دولهم بذريعة الحفاظ على حقوق الإنسان إنما تفعل ذلك من باب المساومة والكيد السياسي ورغبة في تحقيق أهداف خاصة. والدليل على ذلك أن نفس هذه الدول تسارع إلى اعتقال من ينكر وقوع المحرقة اليهودية أو ينتقد حقوق المثليين، كما تتشدد في رفض حجاب النساء لفرض نمط معين من الحياة وتغيير السلوكيات الاجتماعية، حتى وإن كان يتعارض مع قيم الآخرين الدينية الراسخة وعاداتهم وقيمهم المتوارثة، فأين حقوق الإنسان من ذلك؟
خلاصة القول إنه لا توجد هناك حرية مطلقة، فالمبادئ القانونية العامة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه مثلما هناك حقوق فإن هناك واجبات معينة تقع على كل فرد تجاه السلطة العامة في المجتمع وتجاه غيره من الناس. كما أن وضع بعض القيود على ممارسة الحقوق والحريات الأساسية لا يشكل خروجًا على هذه الحقوق، وهذا ثابت سواء على مستوى التشريعات الوطنية والدولية.
فالدول كافة تنص صراحة في قوانينها ودساتيرها على عدم إطلاق حقوق الأفراد إذا تعارضت مع حقوق الغالبية. كما تنص المادة 29/2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن الفرد «يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته للقيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام، والمصلحة العامة، والأخلاق».
فليفعل الآخرون ما يشاؤون وليحتضنوا من المخالفين من يريدون وليرفعوا من اللافتات الباهتة ما يختارون، فهذا لم يعد مقنعا لنا، ولم تعد ذرائعهم الجوفاء تنطلي علينا. أما نحن فسنحافظ على حقوق الإنسان حسب مفاهيمها الحقيقية وسنواصل تكريم هذا الكائن الذي كرّمه الله تعالى، ولكن وفق احترامه لحقوق غيره ولن نستغل هذه القيم الأصيلة لتحقيق مكاسب سياسية أو أهداف حزبية، إنما لأنها جزء أساسي من تراثنا وأخلاقنا وقيمنا وتعاليم ديننا الحنيف.
نقلا عن الوطن السعودية