بقلم مريم النويمي: تحدثوا إليهم قدر ما تحبون
لا يولد الإنسان إلّا ليموت، عند ولادته يأخذ نفسًا عميقًا يُدعى «شهيق»، وهو إدخال الهواء للرئتين كي تتمددا فتسري الحياة في بدنه، وآخر ما يفعله هو «الزفير»، كي يخرج آخر نفس، تنكمش الرئتان ويبرد جسده فيُعلن عن وفاته. لكن كيف تتوقف الحياة! كيف لنا أن نعرف بدنو أجل شخص أو ربما هو يعرف ذلك قبل غيره!
في حال الوفاة الطبيعية، الإنسان لا يموت دفعة واحدة، بل يتوقف عن ممارسة الحياة تدريجيًا، أو ربما تهجره على دفعات، لكل خلية في الجسم ساعة بيولوجية، تنظم عملها وحينما تتوقف هذه الساعة عن العمل تموت الخلايا الواحدة تلو الأخرى ويتوقف القلب. لو اطلعت على شهادة الوفيات ستجد السبب الرئيس، «هبوط حاد في الدورة الدموية والتنفسية وتوقف في القلب»، وهذا ما اكتشفه العلماء منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث عُرّف الموت بأنه توقف الوظائف الحيوية (القلب والتنفس)، ومن هنا نشأت فكرة إنعاش القلب والرئتين واختراع جهاز التنفس الصناعي، وظهرت عام 1952 وحدات العناية المكثفة.
ارتفع معدل الناجين من الموت بفضل الإنعاش القلبي الرئوي والأجهزة الحديثة، ولكن زاد عدد الأموات دماغيًا، الأجهزة قد تنشط القلب وترفع الضغط وتؤدي عمل الرئتين، لكن تعجز أن تحيي الدماغ بعد موته، لكنها تزيد من عدد أيامه على هذه الأرض حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
لوحظ أن الإنسان يحتضر لفترة ليست بقصيرة قبل أن تحضره الوفاة، يفقد حواسه تباعًا، حتى يتلاشى ويبقى مجرد سيرة بين الناس، أول ما يفقده الإنسان هو الشهية، حيث يفقد الرغبة في الأكل والشرب، لأن الجسم الذي يستعد للرحيل لا يحتاج إلى التغذية نفسها التي كان يحتاجها سابقًا، فخلاياه في طور التوقف، وسيعاني جهازه الهضمي حيث يحتاج وقتًا أطول للهضم، فيعزف عن الطعام والشراب.
حتى الرغبة في الحديث تقل، فتجده قليل الكلام، يميل إلى العزلة، وينسحب اجتماعيًا وتزداد ساعات نومه وأحيانًا تقل درجة وعيه وإدراكه، ويضعف نظره، ما يجعله يغلق عينيه بشكل متكرر أو تبدو عيناه خاملتين، ونظراته زائغة. كلنا يعرف أن حاسة السمع آخر ما يفقده الإنسان، وحسب دراسة أجراها أطباء المخ والأعصاب على مرضى يحتضرون في إحدى دور العجزة بكولومبيا، وجدوا أن استجابة هؤلاء العجزة قبل ساعات من موتهم تعادل استجابة الأصحاء، وذلك من خلال قياس النشاط الكهربائي للدماغ (EEG)، حيث راقب الباحثون استجابات الدماغ للنغمات، ووجدوا أن الأنظمة السمعية للمرضى المحتضرين استجابت بشكل مشابه للأصحاء حتى بعد ساعات من موتهم، وتوصلوا إلى أن دماغ المحتضر يستجيب للنغمات الصوتية أثناء حالة اللاوعي، وأن السمع هو آخر حاسة تدخل في عملية الموت. هذا يجعل من الاحتضار موقفا خاصا، يتسع للاعتذار، كلمات الحب، العفو. تحدثوا إليهم قدر ما تحبون، فإنهم يسمعونكم أكثر من أي وقتٍ مضى.
نقلا عن الوطن السعودية