بقلم ملحة عبدالله: الإرهاب بالثقوب السوداء
لم يعد في الوقت بقية كي نعكف خامدين خاملين على زجاج نوافذ معتمة لا نرى منها سوى ما يدغدغ فضولنا، ويخدر عقولنا ولا يترك لمجتمعاتنا سوى غيبة تغييب وتلصص على مخادع اليقظة والنائمين! بهواتف مستقبِلة ومُرسلة، بينما الدوائر تدور حولنا ولسنا عنها ببعيد..
حقيقة غرائبية، عجيبة، ومدهشة، حينما تحارب جل دولنا العربية الإرهاب، وتعد له العدة والعتاد؛ لكن الماء يتسرب من بين الأنامل حتى إلى دواخل بيوتنا وفي قاعات اجتماعاتنا؛ إلى أن يصل الأمر في الآونة الأخيرة إلى المخادع وغرف النوم مع الاعتذار للقارئ الكريم!
نوع من الإفراط بلا رقيب، لم تجعل له هذه الدول أو تلك دساتير أو قوانين، وربما وُضعت! لكن ربما أن غياب الحرفية التقنية العالمية والمحلية قد حال دون ذلك، أو قل ربما حال دون ذلك دعوات حرية الرأي وحقوق الإنسان في التعري والتبجح إن جاز لنا التعبير!، فأي حرية التي تقتل فينا ذواتنا، وتاريخنا، وعقائدنا؛ فأصبح المحذور مباح، وانطلقت الحناجر بلا قيود وبلا معرفة أو حرفية فيما يصدح به أي محتوى، بلا ضمير أو وازع أخلاقي، كل ذلك تحت تأثير خلل اجتماعي هام يحمل ثيمة عامة وهي (الحلم بالثراء السريع) ولعنة ما يسمى (ترند) رغبة محمومة ممولة من الخارج في شكل مكافآت وهدايا، أو قد لا نجد لها مسمي! فم يفتح ومال يدفق!، أموالا تُعطي مقابل الانزواء في ركن ثم قل ما تشاء!. أي فراغ فكري ومعنوي وحتى أخلاقي نحن مقبلون عليه.
في الآونة الأخيرة عكفت على قراءة ما يقرب من المئة نص مسرحي جميعها كُتبت في الخمس السنوات الأخيرة.
لم تكن قراءتي لشيء سوى الاطلاع على المؤشر العام للطرح الفكري والمجتمعي محليا كان أم إقليميا- ومعرفة الهَّم الجمعي لكتابة حديثة ومعاصرة، أو قل القضية العامة التي أصبحت رائجة في كل بلادنا العربية- في تلك النصوص التي طرحت نفسها بين أيدينا، فمن المعروف أن المسرح هو تلك المرايا المحدبة للمجتمعات.
ومما أدهشنا هو تشابه القضية الواحدة في كل تلك النصوص وطرحها في كتابة هؤلاء الكتاب وما يؤرقهم، بقصد النقد والاستنكار، فيما تزدحم به نصوصهم من نماذج مستوحاة من الواقع، في إطار هزلي وكوميديا لاذعة. وهذا ما ينم عن ضجر المجتمع فيما يبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكيفية إدارته! وآثاره السلبية كنتيجة عامة لكل ما كتب من تلك النصوص، منها السياسية والاجتماعية والنفسية وغير ذلك.
فالمجتمعات العربية مجتمعات محافظة بطبيعة الحال، ولها أعراف وتقاليد لا تزال حية ترِف على ضفاف القلوب.. أتذكر أبياتاً صغتها في عمل فني كـ(السيرة الشعبية) مستلهمة حياة أهل عسير وقحطان، وفي إحدى مقاطع السيرة شخصيات حطابات الحطب من بين الجبال وكانت واقعا مستلهما حينما قلت لممارساتهن اليومية في تلك الآونة ومنها:
وتبزغ شمس موطننا
تعانق هامة الأشجار تتويجا وتلوينا
ترينا الضوء أحيانا
وتلفح صفحة الهامات والأعناق وقدا حارقا فينا
فنغدوا صوب غدران ألفنا برد لُجّتها
وتأسرنا ينابيع روينا من مناهلها
ونسبح في عبابتها
وتسترنا جوانبها
وآكام عهدناها
تغالب أعين الواشين عن حُرمٍ
حرصنا أن نبالغ في تسترنا
ونأبى أن تطالع أعين الرقباء شيئا فاتناً فينا!! الخ...
هذا بالأمس القريب كنا نحن وليس في زمن بعيد عاشته جداتنا وأهليها، منهم أكثر حرصاً وأبلغ قولا وأشهر صيتاً.
إن ما قرأته في هذه النصوص المسرحية من نقد لاذع لما يجتاح ساحات ثقافتنا العربية هو استجابة لذهنية فاحصة ناقدة، تأبى هذا الطفح المستشري بين بعض أبنائنا وبناتنا وبعض رجالنا ونساءنا، بشكل أصبح ظاهرة اجتماعية فجة وقميئة.
ومما لا شك فيه أنه في ثنيات الحروب أو بعدها يطفو على السطح طفح من نوع التعاطي للفنون ولوسائل الإعلام، كما شهدنا تلك المدارس المتنوعة التي ظهرت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، من تحطيم جل القواعد والمدارس الفنية والإعلامية وحتى العقائدية!
لقد رصد كثير من أساطين الإعلام عبر القرن التاسع عشر والعشرين ما يسمى بفنون التخدير، ومدى خطورتها على الشعوب كنوع من الحروب المستترة خلف الجدران وحقن تحت الجلد عبر وسيلة تدخل في كل بيت. ولا يعنون هنا بتعاطي المخدرات، إنما ما تتركه هذه الفنون وتلك في تخدير العقول وغيابها عن الوعي التام أو الوعي المحتمل أو حتى الوعي القائم كما صنفه لويسيان جولدمان ومن قبله أستاذه جورج لوكاتش في نظريتهما الاجتماعية، والتي كانت تناقش ايقاظ الوعي بعد فنون التغييب التي خلفتها الحروب؛ هذا التغييب في تعاطي المحتوى والانشغال به بلا دراسة ولا وعي ولا تخصص هو يدخل ضمن فنون التغييب بلا شك- إذ أصبح الكل صانع محتوى- هو ما نعده فنا من فنون الإرهاب الصامت، المتسلل، الذي يتخذ قوته من فضولية المتلقي وتلصصه، فأصبح التابع والمتبوع في غياهب الجب.
لم يعد في الوقت بقية كي نعكف خامدين خاملين على زجاج نوافذ معتمة لا نرى منها سوى ما يدغدغ فضولنا، ويخدر عقولنا ولا يترك لمجتمعاتنا سوى غيبة تغييب وتلصص على مخادع اليقظة والنائمين! بهواتف مستقبِلة ومُرسلة، بينما الدوائر تدور حولنا ولسنا عنها ببعيد.
إن كل هذه الزلزلة الاجتماعية من متغيرات فجائية على مستوى الأسرة والفرد، ماهي إلا تلك الثيمة المسيطرة على كل ما كتب من نصوص كاملة المباشَرة، وبلا تورية أو تخيل أو استقراء سيميوطيقي ذي عمق فلسفي. هي ظاهرة الحلم بالثراء السريع!
حقيقة إن الإرهاب الذي يستتر دائما خلف غلالة الفضيلة والحرية والحلم بالثراء المزعوم، هو العدو الرئيس لمنظومة القِيَم التي تقوم عليها الحياة الإنسانية صانعة الحضارة، التي يركن إليها الناس لكي يحولوا حلم الإنسان في الأمن والتفاهم والتكامل والتعاطف والرخاء إلى حقيقة فعلية فاضلة يعيشونها ويصنعون على أساسها مستقبلا يطمئنون إليه، لكن هذه الثقوب السوداء في هواتفنا هي ما تصنع لنا إرهابا من نوع جديد.