بقلم فاطمة المزيني: أوبنهايمر في محكمة التاريخ
(أشفق بروميثيوس على ضعف البشر، فأجسادهم عارية لا يكسوها الريش أو الفراء، ولا يملكون أجنحة ولا قرونا ولا أنيابا ولا مخالب، قرر بروميثيوس أن يساعدهم فسرق لهم النار من جبل الأوليمب ومنحهم المعرفة مما جعلهم أقوى المخلوقات)، هذا ملخص للأسطورة الإغريقية التي قدمها كريستوفر نولان كافتتاح فاخر يليق بتحفته السينمائية الأخيرة (أوبنهايمر)، والفيلم مأخوذ عن رواية (بروميثيوس الأمريكي)، من تأليف كاي بيرد ومارتن شيروين.
صنع الفيلم لينفجر في عقل المشاهد، فهو عمل إبداعي نشط مليء بالحركة متجاوزاً لتسلسل الزمن ومليء بطبقات من الأحداث والرمزيات. يشعر المشاهد معه وكأنه هو نفسه قد تحول إلى جسيم سابح في مدار إهليليجي غير مستقر.
ما جذبني للفيلم بعد الإخراج المذهل والقدرات الفنية العالية. كان المضامين العلمية والسياسية والقانونية التي تم تركيبها لتكون أشبه بتوثيق لمواقف وأعمال العالم (روبرت أوبنهايمر).
لم تكن مشكلة أوبنهايمر في توليه إدارة «مشروع منهاتن»، بل في دخوله إلى عالم السياسة، إذ وقع في سلسلة من الأعباء البيروقراطية أثناء عمله، ثم وقع لاحقاً ضحية للتهديدات المكارثية التي انتشرت في ذلك الوقت كعنوان عريض للأمن القومي الأميركي. وقد ألقى الفيلم الضوء على هذه الحقبة المؤثرة في مجريات حياة أوبنهايمر التي استطاع نولان انتزاعها من طابع المتوقع والعادي ليحولها ببراعة إلى حدث سينمائي عالمي.
علينا أيضاً ألا نغفل بعض الأطروحات التي تناولت الجوانب الأخلاقية في العمل، وقد يكون هذا طبيعياً عند الحديث عن الحروب ومآسيها، ولكن يصعب تتبع هذا النوع من الطرح منطقياً. فالأخلاق في ذاتها معضلة فلسفية كبرى. وأتساءل هنا ما هو الفارق الجوهري بين من صنع القنبلة الذرية ومن صنع الألغام أو الرصاص أو الأسلحة الكيماوية، وما هو المعيار الأخلاقي المعتبر لتجريم القنبلة الأميركية وغض النظر عن أفران الغاز النازية مثلاً، هل يختلف الموت أم إن المختلف هو حجم ودوي الانفجار، ثم لماذا لم يتجه العالم لقرارات دولية تحرم التسلح النووي وتعاقب من يسعى لامتلاكه بخاصة مع وجود منظمات حقوقية وإنسانية تعمل بموجب المبادئ الأخلاقية العليا وتحاول حماية الكوكب؟!
قد يكون الموت جزءاً لا يتجزأ من الحياة، ولطالما وضع البشر أسباباً أخلاقية وفكرية تسوغ استحقاق الأعداء والمنافسين والخصوم والأجناس الحية الأخرى للموت.
لا يمكن إصدار أحكام أخلاقية مطلقة على العمل السياسي أو الإنجازات العلمية. لقد خرجت هذه المجالات من تحت المظلة الأخلاقية والدينية وأصبحت في معظمها براغماتية/ ميكافيللية صرفة منذ قرون.
ويمكننا ملاحظة أن الفيلم تطرق لهذه المسألة في تقديم مقاربات عميقة حول توظيف الأخلاق لخدمة الأجندات السياسية، بما في ذلك تحايل خصوم أوبنهايمر على المبادئ، وحقوق المواطنة الأميركية المكفولة دستوريا. وظهر هذا في جلسات استجواب أوبنهايمر بتهمة التجسس ثم حجب تصريحه الأمني بعد ذلك، وهو الأمر الذي أدى إلى تراجعه وتوقف العلماء عن ممارسة العمل السياسي.
من جهة أخرى يتيح الفيلم التأمل في مسألة نهوض الأمم التي حشدت ثروة العلم واستقطبت العلماء، فمنحها هذا الأفضلية السياسية بامتلاكها قوة الردع الأكثر رعباً، وكذلك التفوق العلمي التنافسي الذي جعلها مؤهلة لتوجيه العالم.
وأخيراً... يستحق الفيلم شهرته الواسعة كما يستحق أكثر من مشاهدة وأعتقد أنه سيكون من أهم أفلام هذه المرحلة.