دم الإنسان طاهر أم نجس؟ وحكم الحيض والنفاس؟ «الإفتاء» تجيب
الإثنين 27/فبراير/2023 - 05:07 م
كمال الناحل
تلقت دار الإفتاء المصرية، سؤالا، جاء فيه: "هل دم الإنسان طاهر أم نجس؟ وما الفرق بينه وبين الحيض والنفاس؟
وقالت دار الإفتاء المصرية في إجابتها: اتفق الفقهاء على أن دم الحيض والنفاس نجس، واستدلوا على ذلك بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي» متفق عليه، ولحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله سلم فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فِيهِ» متفق عليه، أي: تقشره وتحكه ثم تدلكه بأطراف الأصابع والأظفار مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره ثم تغسله.
الدم المختلف عن الحيض والنفاس
أما غير الحيض والنفاس فمختلف فيه على رأيين: فيرى جمهور فقهاء المذاهب الأربعة: أن دم الآدمي -غير الحيض والنفاس- نجس، على تفصيل بينهم، لكن القول بالنجاسة قدر مشترك بينهم، واستثنوا من ذلك اليسير من الدم، وقالوا إنه معفو عنه، على خلاف بينهم أيضًا في مقدار اليسير: فيرى المالكية والحنفية أن اليسير هو قدر الدرهم وما دونه، والصحيح عندهما اعتبار مساحة الدرهم لا وزنه، فعند الحنفية هو عرض الكَف الواحدة، فيغرف الشخص الماء باليد ثم يبسط يده فما بقي من ذلك فهو مقدار الكف، وعند المالكية نحو تلك المساحة. راجع: "فتح القدير" (1/ 200، ط. دار الفكر)، و"رد المحتار" (1/ 317-318، ط. دار الفكر)، و"حاشية الصاوي" (1/ 75، ط. دار المعارف).
ويرى الشافعية والحنابلة أن الـمَردَّ في القلة والكثرة العرف. راجع: "حاشية البيجوري على ابن القاسم" (1/ 103)، و"الإنصاف" (1/ 198، ط. دار إحياء التراث العربي). وفي مقدار اليسير أقوالٌ أخرى.
وقد نقل الإجماع على نجاسة الدم الكثير جماعة من أهل العلم؛ فقد سئل الإمام أحمد: [الدم والقيح عندك سواء؟ قال: الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه] اهـ. راجع: "شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 105، ط. مكتبة العبيكان).
دم الإنسان الكثير
إلا أن الشافعية يرون -بعد اعتبار العرف في القلة والكثرة– أن دم الإنسان الكثير -كأن كان بالحجامة مثلًا- يعفى عنه شريطة كون الدم من الشخص ذاته، أي لم ينتقل إليه، وعدم كونه من فعله، أي: ليس متعديًا بوضعه على بدنه وثوبه، وعدم اختلاطه بأجنبي، وعدم مجاوزة المحل. راجع: "الإقناع" بحاشية البجيرمي (1/ 447، ط. دار الفكر)، و"حاشية البيجوري" (1/ 107).
واستدل الجمهور على قولهم بنجاسة دم الآدمي بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها السابق، وهو وإن كان واردًا في الحيض إلا أنه لا فرق بين دم الحيض وغيره.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]، يقول الإمام الطبري في "تفسيره" (9/ 633، ط. مؤسسة الرسالة): [وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم -عند إعلامه عباده تحريمه إياه- المسفوح منه دون غيره؛ الدليل الواضح أن ما لم يكن منه مسفوحًا فحلال غير نجس] اهـ.
ويقول الإمام الرازي في "تفسيره" (11/ 21، ط. دار إحياء التراث العربي): [الشافعي رضي الله عنه حرَّم جميع الدماء سواء كان مسفوحًا أو غير مسفوح، وقال أبو حنيفة: دم السمك ليس بمحرم.
أما الشافعي فإنه تمسك بظاهر هذه الآية، وهو قوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾، وهذا دم فوجب أن يحرَّم، وأبو حنيفة تمسك بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾، فصرَّح بأنه لم يجد شيئًا من المحرمات إلا هذه الأمور، فالدم الذي لا يكون مسفوحًا وجب أن لا يكون محرمًا بمقتضى هذه الآية؛ فإذن هذه الآية خاصة.
وقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ عام، والخاص مقدَّم على العام.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قوله: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية، بل على أنه تعالى ما بَيَّن له إلا تحريم هذه الأشياء، وهذا لا ينافي أن يبين له بعد ذلك تحريم ما عداها، فلعل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ نزلت بعد ذلك، فكان ذلك بيانًا لتحريم الدم سواء كان مسفوحًا أو غير مسفوح، إذا ثبت هذا وجب الحكم بحرمة جميع الدماء ونجاستها؛ فتجب إزالة الدم عن اللحم ما أمكن، وكذا في السمك، وأي دم وقع في الماء والثوب فإنه ينجس ذلك المورود] اهـ.
وروى الإمام مالك في "الموطأ" عن نافع: "أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ إِذَا رَعَفَ انْصَرَفَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ فَبَنَى وَلَمْ يَتَكَلَّمْ".
يقول الإمام الباجي في "المنتقى" (1/ 85، ط. دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة) عند كلامه على ضابط الدم القليل والكثير في الرُّعَاف: [(فرع) والكثير: أن يسيل أو يقطر؛ لقوله تعالى ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: 145]، فإن لم يسل ولم يقطر -وإنما كان يرشح من أنفه- فإنه يفتله بأصابعه، فإن عم أنامله الأربعة العليا ولم يزد على ذلك فهو يسير لا ينصرف منه، وإن زاد على ذلك إلى الأنامل التي تليها فلينصرف؛ فإنه كثير، قاله ابن نافع في المجموعة عنه، وفي كتاب ابن المواز نحوه. ومعنى انصرافه في هذا: قطع صلاته واستئنافه بعد غسل الدم؛ لأنه حامل نجاسة في خروجه فتبطل بذلك صلاته] اهـ.
الدم طاهر
ويرى بعض العلماء: أن دم الآدمي طاهر مطلقًا ولو كان كثيرًا، وهم بعض المتأخرين كالشوكاني. راجع: "الدراري المضية" (1/ 32)، ط. دار الكتب العلمية).
ودليلهم على ذلك: أن التمسك بالأصل وهو أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة، ولا نعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بغسل الدم إلا دم الحيض.
كما استدلوا بأن المسلمين ما زالوا يُصلون في جراحاتهم في القتال -رواه البخاري تعليقًا-، وقال الحافظ ابن حجر في "التغليق": [ذكره ابن أبي شيبة عن هشيم عن يونس عن الحسن] اهـ، وقد يسيل منهم الدم الكثير الذي ليس محلًّا للعفو، كما أن الشهيد يدفن بدمه ولا يغسَّل؛ لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يصلِّ عليهم ولم يغسلهم -رواه البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما-، ولو كان الدم نجسًا لوجب غسله من الشهداء.
ويُرَدُّ على ذلك: بأن نفي العلم بالشيء لا ينفي وجوده، فعدم علمنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر إلا بغسل دم الحيض لا ينفي أمره بغسل غيره من الدماء، ثم إن نجاسة الدم مستدل عليها من غير أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أدلة الجمهور السابقة.
أما قولهم بأن المسلمين ما يزالون يُصلُّون في جراحاتهم، وكون الشهيد يدفن في دمه من غير غسل فدليل للجمهور لا عليهم؛ لأن من الضوابط التي وضعها الشافعية للعفو عن نجاسة الدم الكثير كون الشخص غير متعد بوضعه على جسمه، وأن يكون الدم من الشخص نفسه، ولم ينتقل إليه من غيره، وكلا الحالتين السابقتين داخلتان تحت هذا الضابط.
مدى طهارة أو نجاسة الدم
ومما سبق يتبيّن اتفاق الفقهاء على نجاسة دم الحيض والنفاس بلا نزاع، كما اتفقوا على أن الدم اليسير وإن قيل بنجاسته إلا أنه معفو عنه، أما الدم الكثير فمذهب جمهور الفقهاء أنه نجس وهو القول الراجح.
وقال بعض الفقهاء: بالعفو عن نجاسة الدم الكثير شريطة عدم التعدِّي في وضعه على الجسد، وأن يكون لنفس الشخص لا من شخص آخر، وذلك كما في حالة دفن الشهيد بدمائه من غير غُسل، وصلاة المسلمين المجاهدين في جراحاتهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.