الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

راندا الهادي تكتب: عصفور من مصر!!

الخميس 27/أكتوبر/2022 - 10:52 ص
هير نيوز

على غرار (عصفور من الشرق) للعبقري (توفيق الحكيم) نبدأ رحلتنا في هذا المقال، رحلةً قمتُ بها، واستغرقتْ نحوَ عامين من عمري في دولة الإمارات العربية الشقيقة.

 

خلال فترة ما قبل وأثناء ثورة يناير 2011م، قُدر لأسرتنا الصغيرة السفرُ إلى الإمارات، والإقامةُ بها لظروف العمل، ولأول مرة منذ تخرجي في كلية الإعلام أقضي وقتا بدون دوامٍ للعمل، أو قيودِ وظيفةٍ ما - رغم حبي الشديد لمهنتي كمذيعة - ولكنّ كلَّ امرأةٍ عاملة ستدرك هذا الشعور الذي أحاطني بالحرية الكاملة للتخطيطِ ليومي.

 

لن أتحدثَ طويلا عن التقدم والتطور والبهاء الذي تتمتع به الإمارات كدولة عربية، ولكن سأتحدث هنا عن ملاحظاتي البسيطة العميقة كمصرية خارج حدود بلادها العاشقة لترابها، وبما أننا ذكرنا التراب، كان لا بد من البدء بهذه الملاحظة: لا يوجد تراب في الإمارات!! ولا أتدخل هنا في عمل الچيولوچيين أبدا، ولكني أقصد أن أوراقَ الأشجار غاية في النظافة والنقاء، وكأنها خرجتْ لتوها من رحِم الأرض، زاهيةَ الخُضرة ، نضِرةَ المشهد، زاخرةَ العطر، ولأنني كنتُ أقطن في القاهرة بمنطقةٍ تكثر بها الأشجار، كانت تُضايقني تلك التلال من الأتربة المختلطة بالزيوت التي ترزحُ تحت نِيرِها هذه النباتاتُ المسكينة، لتكتسيَ بلون غريب أبعدَ ما يكون عن الأخضر، وأقربَ ما يكون من الرمادي الداكن.

 

نعود لسِرِّ الزرع في حاضرةِ الخليج، الذي لم أتوقف لحظة عن التفكير فيه حتى عرفته بالمصادفة البحتة، فعندما كنتُ جالسةً بعد شروق الشمس أتطلع من شرفتي في أحد أيام الشتاء الربيعية هناك، وجدتُ السيارةَ الخاصة بهيئة النظافة يترجلُ منها أحدُهم ليمُدَّ خرطومًا من الأرض يغسل به الأشجار وأوراقَها _ رغم نظافتها _! ويرويها بحسابٍ دقيق، ما أجملَ هذا المشهد! لماذا لا نفعل ذلك نحن _ أرضَ النيل _؟! لماذا غابت عن شوارعنا سياراتُ الرش التي كان يُبهجنا منظرُها ونحن أطفال؟! لماذا نترك أخضرَنا بدون اهتمامٍ ورعاية، فنحن _ المصريين _ مِلحُ الأرض وأبناؤها المخلصون.

 

ملاحظتي الثانية كانت في السوق القريبةِ من البناية التي أقطن بها، ويلزم التوضيحُ هنا أنها ليس ضخمة، وإنما محدودة المساحة، فقد لفت انتباهي نظافةُ كافة العبوات للسلع على الأرفف، مهما ارتفع مكانها، وكل امرأة هنا تقرأ المقال _ خاصة الفئة التي يؤرقها وَسواس النظافة مثلي _ تدرك هذه المعاناة مع مشترياتنا من الـ (سوبر ماركت)، حيث تكتسي يداك بالسواد لمجرد الإمساك بها، فضلا عن عملية التنظيف العميق قبل وضعها بالمطبخ أو الثلاجة.

 

إذن هنا السؤال، إذا قبِلنا الترابَ المتراكم على أوراق الأشجار في الخارج، فبمَ نفسر هذا الإهمال لتنظيف المنتجات الغذائية داخل أماكن التسوق؟!!

 

الملاحظة التالية عن البشاشة والابتسام والتعامل مع الصغار، قد يَرُدُّ عليَّ البعضُ قائلا: إن ظروفَ الحياة وضِيقَ العَيش مُبررٌ كافٍ لهذا (البُوز) غيرِ المبرر عند العاملين بمجال البيع والشراء في مصر، - الكلام هنا عن الغالبية - لكن العذرَ مرفوض أيها السادة؛ فنحن أمةٌ دعاها نبيها إلى الابتسام واعتبره صدقة لا تَتعبُ في الفوز بها.

 

بدون مغالاة، ما دخلتُ مكانا للشراء في الإمارات إلا وكانت البسمة تزين الوجوه، ولا أشك هنا من كونها شرطا أوليا من القائمين على المكان للتوظيف، أما التعامل مع الأطفال فهذه تجربتي الخاصة: كنتُ مع طفلتي التي لم تتجاوز العامين آنذاك بأحد متاجر الأثاث، وبسبب حب الاستطلاع واللمس عند الأطفال بهذا العمر، غافلتني صغيرتي بإحدى التفاتاتي عنها وكسرتْ كرةً زجاجية باهظة الثمن، وبنفسٍ مُسلِّمةٍ لقضاء الله وقدره ولا تَحْمِلُ في محفظتِها رُبْعَ ثمن هذه الكرة، وقفتُ في انتظار نصيبي من وابل الاتهامات عن عدم الاهتمام بطفلتي وسُوء تربيتها، وأن المحل غيرُ مسئول، ووجوبِ دفع قيمةِ السلعة المُدَمَّرة، مُغلفةً بنظراتِ (القرف) والاستعلاء؛ لدخولي المتجر من الأساس، لكنّ المفاجأة كانت حضورَ أحدِ العاملين بابتسامةٍ عريضة، واحتضانَه ابنتي وقولَه: إنها طفلة!! ورغم عرضي دفعَ قيمة المكسور - الذي لا أملكه - كان الرفضُ التام هو الإجابةَ الوحيدة.

 

ملاحظتي الأخيرة بهذا المقال، _ وليس في إقامتي بهذه الشقيقة العربية _ هي الاهتمامُ الواضح بالإنسانيات، ففي جميع المباني التي يتردد عليها الجمهور، دومًا يوجد مدخل خاص وتيسيرات كاملة لتنقل ذوي الهمم، في أي (مول) تجاري هناك غُرف غاية في الرقي والشياكة للأمهات المرضعات؛ حفاظا على الخصوصية، وإكراما للأمهات أينما كانوا، الانترنت في الشوارع مجانا، الرعاية الطبية مجانية تماما في حالة الطوارىء، وما يستتبعها من رحلةٍ للعلاج مهما طالت - هنا الحديث عن المشافي الحكومية -، أماكن الانتظار لوسائل النقل العام (مكيفة) مراعاةً لقسوة الحرارة في دول الخليج، والكثير والكثير، الذي أتمنى رؤيته في بلادي، خاصة وأننا اقتربنا من مناخهم، فياليتَنا نقترب من رقيهم واحتفائِهم بالإنسان، فهذا ليس مكلفًا بالمرة، النظافة والابتسامة وتربية جيل متصالح مع من حوله… هي أشياءُ لا تُشْتَرَى!!

ads