إيمان سمير تكتب: اللقاء المؤجل
ارتفع صوت الهاتف بعد أن حولت المساعدة إليه المكالمة،فالتقط
السماعة غير مبالٍ بصاحب أو صاحبة الصوت القادم، إلى أن توقفت أصابعه وراح رأسه
المشحون بالحلم داخله منذ سنوات بالشرود، الحلم الذي سعى لتحقيقه كثيراً، أتاه
صوتها خافتاً مرتجفاً رويداً رويدا، ظل يُنصت علّه يتأكد مما شعر به حتى قال في
قلبه:
"
نعم إنه صوتها"
"
أريد تحديد موعد قريب، والمساعدة تُخبرني بموعد بعيد جداً"
قالتها بحزمٍ واقتضاب رغم قلقها
أجاب بنفس الحزم والسعادة " سأنتظرك غداً الثالثة
عصراً"
شكرته وألقت السماعة غير مبالية بم قد تفرضه آداب إنهاء المحادثات.
في اليوم التالي كان الطبيب " شريف" يُمني نفسه بهذا اللقاء المؤجل منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، لا يستطيع الجلوس أكثر من دقائق، ولا يقوَ على الوقوف طويلاً، ولا يمل من حيرة عينيه بين ساعته ونافذة عيادته، حتى أتت اللحظة الحاسمة له، سيراها بعد ثوانٍ، بل أتت قبل الموعد.
اصطحبتها المساعدة إلى حيث هو ثم غادرت وتركتهما، تفحصها
بعينيه وقد أحس أن الحنين يُخامره بقوة، إنه أمام حلمه، تُرى ماذا بها ولِمَ طلبت
لقاءه؟، امتدت يده لمصافحتها فلمست أصابعه أناملها الباردة التي أطلقتها بخجل، ثم
أشار إليها بالجلوس في مواجهته، سألته:
_ أتذكرني؟
_
بكل تأكيد... سمية.
_
وتذكر إسمي أيضاً؟
_
أذكر كل ما بك.
"
قالها بطريقة يَرِق لها الجلمود الأصم"
نظرت إليه وقد تاهت منها لفْظَةُ البدء بعد تحنانه هذا.
وهو أيضاً كان بحوارٍ صامت مع نفسه، هل هذه هي سمية الجميلة الهادئة؟ ومالي أرَ على ملامحها بعض معالم شخصية جامدة قاسية قد تُقَارع بها بلداً كاملاً.
أخرجهما من لُجَة أفكارهما صوت رنين الهاتف الذي التقطه
دون أن يُزيح ناظريه من فوق عينيها، تفوه بجملة واحدة:
"
لا أريد أي مكالمات واعتذري لباقي المرضى اليوم"
اتخذ هو حمل بدء الحديث فسألها هل هي هنا بصفته طبيب
نفسي أم كصديق قديم؟
أجابت " بالقطع أحتاج الطبيب فأنا أشعر أني بحاجة
إلى العلاج، ويكون من حظي الطيب أن يكون الطبيب صديق".
أكملت قائلة:
جئت إليك مزدحمة العواطف ومتضاربة الانفعالات، وبعد
محاولة للبكاء مع أشخاصٍ غير مؤهلين، جئت إليك للخروج إلى الحياة أو العودة إلى
الله إن كنتُ في سكرات الموت وأنا لا أعلم.
قاطعها مندهشا:
ما الذي يدفع أنثى مثلك إلى هذا؟ إحكي لي واطمئني.
شردت وكأنها عادت للوراء مائة عام، أنا مريضة به، هذا
العابس للوجه، مُقْطِب الحاجبين دوماً.......
ظلت تحكي عن إيذائه لها وتفننه في إيلامها، ومع كل هذا فهي لا تعرف كيف تخرج من دائرته إلى الآن رغم خيانته وغدره وجحوده، لقد احتارت مشاعرها ورجاءاتها، ثم استطردت:
هل أتمنى له الحياة سعيداً؟ أم أتمنى لحظة موته حينما
يتلاشى حسنه، وتذبل وروده وتضحى أعضاؤه رمماً بالية؟
وهو لا شك ميت.
كان الطبيب شريف يسمع بانصات وألم، فقد قتله الصبر على
هذا اللقاء أعواماً، ولكن جُرحه كان فوق الاحتمال، فحبها لخائنها واضح كالشمس في
رابعة نهارها.
قرر السيطرة على نفسه محاولاً جدية العمل.
_
وماذا عن القانون؟ ألا يشفي هذا القليل من ألمك؟
أجابت بأن شرائع الزواج والطلاق مكروهة ممقوتة، هذه
الشرائع التي تُسن لمثله.
ظلت تحكي وتبكي وتبتسم وتصمت وهو يربت على قلبه يطمئنه
بأنها عادت، أو بطريق العودة على أقل تقدير.
يسأل نفسه متى سأتلو عليها آيات العشق وأُفرج عن المكتوم
بصدري أعواماً، إلى أن اعتذرت خَجِلة مما حكت، تطلب منه السماح عن كل هذه الصغائر
الدنيوية التي تخرجه من قدسية تربيته الحانية.
نظر إليها وهو لا يعلم كيف يستردها إليه من أفق النأى.
فأجاب: هل تعلمين ياعزيزتي أن الإنسان لا يخلو مع نفسه كثيراً إلا مع وعكة صحية أو نفسية؟ أنتِ لم تخطئي وان كانت لكِ خطيةٌ فهي عشقك لمن لا يستحق.
هنا قد سمعت سمية تنهداته التي لم يلن لها قلبها من قبل،
رأت دموعاً أخرى سخينة لم تمسحها بيدها الرحيمة، ومع هذا هي من تحتاج الدواء.
فنظر إليها قائلاً :
"
سأخبرك بمعتقدٍ قديمٍ عندي، وهو أني أجزمت بأن النساء أسبق إلى دخول السماء ومن ثم
الجنان"
فابتسمت لما قال،
ثم استطرد وهو يكتب بقلمه ويكأنه يصف لها الدواء:
" يا حبيبتي أنا بقايا من رمادٍ، وأنتِ قبسٌ من حزنٍ عميق، ولكني صبوت نحو الجمال حين مني دنا".