الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

إيمان سمير تكتب: العجوز

الخميس 01/سبتمبر/2022 - 02:01 م
هير نيوز

كنا وردات صغيرة تتفتح أوراقها حديثاً للحياة، نتوق للحرية والاستقلال، نضجت أجسادنا ولم تنضج عقولنا بعد، نجتمع مع الكبار دقائق قليلة خلسة كي نسمع بعض المسكوت عنه علّنا نجد بعض إجابات لما يدور في خلدنا.


وسمعت أبي يتحدث عن معبد الأسرار، سيدة تحمل بذاكرتها كل حكايات الجدات ومعظم من رحلوا، فهي أكبر من بالحي قاطبة، كنت أراها خلسةً من شرفتي، وكان القرار السخي من والدي بأنه قد سمح لي بحضور اجتماعات الجدة يوم الخميس من كل أسبوع.


وأتى الخميس المنتظر واستيقظت وأنا في شوق بالغ ممزوج بزمجرة وقلق قد يعكر صفو أي شيء، فأنا أحب أن أسمع الجدة وأخاف منها في الوقت نفسه.


وما لبثت حتى أسرعت في سيري لأخبر أبي أني ذاهبة الآن، فنبهني أن لقاء الجدة ليس بالأمر الهين فهي تنتقد بعنف أي خطأ، وكان يرى أن أنتظر دقائق حتى حضور عمتي كي تساعدني، عندما جاءت أخبرتني أن الجدة ستنظر إلى طلاء أظافري وقد تُخرجني خادمتها من مجلسها فورًا، هرعت وأخذت أزيل اللون أثناء حديث عمتي، وأكملت محذرة ألا يعلو صوت حديثي أو ضحكتي، وألا أتحدث إلا عندما تطلب مني هذا، وأن أبدل هذا الثوب فيه الكثير من اللون الأسود.


ظلت عمتي تُلقي بالتعليمات حتى ظننت أن الخطوط سترفع من الصحف، وستصمت الشفاه المتكلمة للأبد، وستُلجم الأيدي مكبلةً خلف الظهور، يالخوفي وشوقي معًا.


قامت أمي ومعها عمتي تتهامسان عن قلقي الزائد وفي هذه الأثناء تهندمان ثيابي، وتعقصان شعري دائرة كبيرة وسط رأسي كقرص الشمس في كبد السماء.


جريت وأخذت متسلقة أكتاف هذا الدرج القديم، أُمني نفسي بسماع حكايات مذهله كأنها عن أشباح أشاهدها ماشية هوينى إلى أكوام أخربة نفوس قديمة وبقايا ذكريات.


وأخيراً أصبحت أمامها، طرقت الباب المفتوح سلفاً بهدوء، فحركت الجدة رأسها بإماءة خفيفة تعني الدخول.


جلست حيث أشارت لي الخادمة، ونظرت أخيرًا إلى الجدة عن قرب "ياااه.. تُرى كم صيفًا وشتاءً مر على هذه المرأة؟".


ظلت تحكي عن من رحلوا حتى ظننت أني أشم رائحة الأكفان والقبور تفوح من ناحيتها، تحكي عن عِبَرِ الزمان ولوعات النفوس وحزن الجماد، وأنا مستمتعة، حتى حدث ما لم أحسب له حساباً ولم يشغل لي بالًا.


نظرت لي الجدة بحنقٕ شديد وتوالت نظرات الموجودات أيضًا، وأنا مندهشة لا أعرف السبب...


هل وضعتُ كأس العصير بصوتٕ مسموع؟ لا... لم أفعل.


ماذا فعلت مما يتنافى مع قوانين الجدة؟ تسارعت دقات قلبي هلعًا وشعرت بقطرات العرق على جبهتي وساد الصمت؛ حيث توقفت الجدة عن الحديث حتى يصلح أحد هذا الخطأ العظيم.


اقتربت الخادمة مني هامسة بكلمات علمت منها أن هذا اليوم هو آخر يوم لي في مجلس الجدة، فقد تهدل شعري ونزل مسترسلًا على ظهري، وهنا كانت الجريمة فلا يوجد بعرفها أن فتاة لم تتعد الرابعة عشرة من عمرها تطلق شعرها هكذا، ونهرتني إحداهن هامسة محتدة:

"تأدبي.. فأنتِ في حضرة العجوز".


بكيت بحرقة حتى قامت الجدة تتكئ على عصاها مقتربة نحوي، وقلبي ينبض هلعًا حتى لمست أكتافي وأوقفتني وضمتني إلى صدرها.


اطمئن خاطري ولعنت هذا الشيطان الذي تفنن في تجربة خداعي "قاتله الله"، فأنا لن أنقطع بعد الآن من حضور مجالس العجوز.


ads