دعاء رخا ..صيدلانية شاعرة روشتاتها من مملكة الإبداع
الخميس 24/يونيو/2021 - 11:29 ص
أحمد زكي
ككل بنات الأسر المتوسطة في الدلتا، نشأت الشاعرة والصيدلانية دعاء رخا، لا تختلف عن أترابها في شيء سوى نزعة قوية للقراءة، ساعدها في ذلك وجود مكتبة ضخمة في منزل خالها الذي كانت تتردد عليه بصحبة والدتها وشقيقيها، فلم تكن تمارس «الحجلة» و«نط الحبل» و«لعب القال» ككل أطفال الثمانينيات، بل تتسلل خفية إلى حجرة الجلوس التي تضم المكتبة العامرة، تصعد أقرب مقعد لتستطيع الوصول إلى الكتب في الأرفف العليا؛ حيث اعتاد خالها أن يرتب الكتب حسب قيمتها المعرفية من أعلى إلى أسفل، ولأنها فطنت إلى ذلك، فكانت تتعمد الوصول إلى الكتب المحفوظة في الرفوف الأعلى لتحقق أكبر استفادة ممكنة.
«مكتبة الأسرة»
عندما كانت في المرحلة الابتدائية، شاركت في مسابقة ثقافية تنظمها المدرسة، وفازت بالمركز الأول، وكم كانت فرحتها حين كرّمها المدير في طابور الصباح مثنيًا على ثقافتها واطلاعها، داعيًا الفتيات إلى اتخاذها مثالًا يحتذين به ونموذجا يقلّدنه؛ ما دفعها إلى تعزيز موارد ثقافتها وتمنت أن يكون لها مكتبتها الخاصة، فصنعت لنفسها رافدًا معرفيًّا جديدًا يضاف إلى أمهات الكتب التي كانت تطّلع عليها خلال زياراتها لمنزل خالها، فبدأت في الاحتفاظ بمصروفها الشخصي يوميًا وفي صباح يوم الجمعة من كل أسبوع تتجه إلى بائع الجرائد الذي يفترش الرصيف، فتلقي نظرة على أحدث إصدارات «مكتبة الأسرة» تنتقي ما يناسبها وتسدد ثمنه من مصروفها الذي ادخرته طوال الأسبوع.
القصيدة الأولى
في المرحلة الإعدادية، كان عليها أن تُلقي كلمة الصباح في الإذاعة المدرسية في اليوم الـ21 من مارس، فاختارت أن تكشف لأول مرة عن مكنون إبداعها، إذ كانت قد بدأت منذ أعوام قليلة في ترجمة حصيلتها المعرفية إلى قصائد على الورق، تستحي أن يطّلع عليها أحد لاعتقادها أن ما تكتبه ليس شعرًا حقيقيًّا، بل مجرد خواطر تعنّ لها، لكنها في ذلك اليوم قررت أن تُعلن عن ميلاد الشاعرة بداخلها، وليكن ما يكون.
«شهادة ميلاد»
«ومع كلمة الصباح تلقيها الطالبة دعاء مختار رخا»، كانت العبارة التي أطلقتها زميلتها التي تتولى الربط بين الفقرات في الإذاعة المدرسية، لتبدأ في إلقاء قصيدتها والتي كان عنوانها «إلى أمي» منوهةً في البداية إلى أنها من تأليفها، وانطلقت زميلاتها في المدرسة يصفقن بحرارة تحيةً لجمال حرفها، وكان مدرس الرياضيات محمود بيصار، مثقفًا مطّلعًا، تقدم إليها في الطابور ووجه لها التحية، لتسجّل في هذا الصباح المشرق شهادة ميلادها كشاعرة.
عميد الأدب العربي و«المدينة الفاضلة»
في امتحانات الشهادة الإعدادية، كانت الطالبات الناجحات يتقافزن فرحًا ويتناقشن في مستقبلهن، إلّا هي وقفت ذاهلة أمام مكتب شؤون الطالبات وبيدها «بيان الدرجات» فلاحظ احد معلميها شرودها فسألها عن سر هذا العبوس وهي الناجحة بتفوق، فقالت لأنني خسرت بضع درجاتٍ في اللغة العربية، فقال المدرس: لعلكِ خسرتِ درجاتٍ في سؤال «التعبير»، ثم أردف: أنتِ لستِ طه حسين.
فردت: طه حسين في مثل سني، لم يكن طه حسين عميد الأدب العربي يا أستاذي، ودار بينهما حوارٌ طويل انتهى بنجاحها في إقناع معلمها بأن الجميع عليهم السعي لإقامة المدينة الفاضلة، رغم اليقين بأنها لن يكتمل بناؤها قط.
من الثانوية إلى الكلية
كان التحاقها بالمرحلة الثانوية، بمثابة نقلة نوعية في حياتها الشاعرية، حيث كانت أنباء نبوغها الإبداعي قد سبقتها إلى هناك، فدخلت المدرسة للمرة الأولى «الشاعرة» وليست «الطالبة» دعاء محمد مختار عبد الرحمن رخا، ليتعامل معها الجميع منذ اليوم الأول كشاعرة حقيقية وليست مجرد طالبة، وكان مدرسو اللغة العربية يطّلعون على إنتاجها أولًا بأول ويشيدون بما تكتب، ووجهوا لها النصائح بضرورة التعمق في دراسة العروض.
معادلة «الطموح» و«الميول»
في السنة التي يجب أن يختار فيها كل طالب تخصصه بحسب طموحاته وميوله، فوجيء معلموها كما فوجئت أسرتها باختيارها التخصص العلمي، وقد كان الجميع يتوقع أن تختار الفرع الأدبي لميولها الإبداعية، لكنها أصرّت على تحقيق طموحها مع الاحتفاظ بموهبتها وميولها الأدبية لتحقق المعادلة الصعبة.
علوم الدواء
الغريب الذي لم يكن يتصوره أحد، أن تلتحق بعد ذلك بكلية الصيدلة، وهناك في جامعة المنصورة كانت تقضي يومها بين المعادلات الكيميائية وعزل الحمضي عن القلوي، وغيره مما تدرسه في علوم الدواء، وحين يحل المساء تهرع إلى كراستها التي تحتفظ بها تحت وسادتها في سكن الطالبات لتكتب قصيدة جديدة، وهكذا في كل ليلة، وحين تخرجت في كلية الصيدلة كانت قد أنجزت إنتاجًا شعريًا وفيرًا، وبدأت في الاشتراك بالمنتديات الثقافية على الشبكة العنكبوتية وبدأت في عرض إنتاجها، لتجد تشجيعًا منقطع النظير، ولم تَعدم الموجّه والمرشد من بين روّاد المنتديات والمجموعات الثقافية، الذي كان ينصحها أحيانًا بتقويم ما اعوجّ من عروض أو استبدال قافية أو ما شابه ذلك من أدوات الإبداع.
السلطانة
مؤخرًا فاز ديوانها «وليالٍ شعر» في مسابقة النشر بإقليم شرق الدلتا الثقافي، لينضم إلى أرشيفها الحافل بدواوين «عذراء العيون، سدرة المُشتهَى، غائبٌ تقديره أنا، أنقى الخطايا، شذور»، وفي حفل بهيج أقيم للفائزين الأربعة داخل المركز الثقافي بكفر الشيخ أطلق عليها الحاضرون لقب «سلطانة الشعر».
مشاركة مجتمعية
رغم انشغالها بمشروعها الإبداعي، ووضعها الاجتماعي كزوجة وأم، وعملها كصيدلانية، شعرت عندما انتشرت جائحة «كورونا»، أن عليها مسؤولية تجاه مجتمعها، فأطلقت مع عدد من زملائها الصيادلة في مسقط رأسها بمدينة بيلا التابعة لمحافظة كفر الشيخ مبادرة بعنوان «صيادلة الخير»، نجحوا من خلالها يفي توفير المعقمات والكمامات الواقية لغير القادرين وعمال النظافة ومن تُحتّم عليهم أعمالهم التواصل المباشر مع الجماهير، وبدأ الكثيرون من أهل الإحسان ينضمون إلى المبادرة فوجهوا جزءًا من تبرعاتهم لصالح دعم مستشفى حميات بيلا، والمساهمة في تجهيز غرفة العناية المركزة بها وتوفير أجهزة التنفس الصناعي.