د. إلهام سيف الدولة حمدان تكتب : أطفالنا .. وشجرة الوطنية!
ليس من المستغرب أن يهتم علماء الاجتماع بما يسمى "أدبيات التربية"، والتركيز على أهميتها في عالمنا المعاصر، فالأوطان تُبنى بالأفراد الذين يؤمنون بالانتساب الحقيقي للوطن بالقلب والروح والوجدان، والاعتزاز والإيمان بهذا الانتساب من كل المناحي الإنسانية: الدينية والفكرية والوجدانية؛ والمعرفة الحقَّة بقيمة وقدسية تراب الوطن الذين يفخرون بأنهم ينتمون إليه.
ولكن كيف يتم غرس هذه المفاهيم الرائعة في تربة الأجيال الجديدة، وأطفالنا في المدارس؛ لا يقومون بتحية "العَلَمْ" في طوابير الصباح قبل مداهمة جائحة كوروناـ إذا كان هناك طوابير من الأساس ـ، ولم يرددوا مع التحية أغاني الزمن الجميل "حُب الوطن فرض عليَّا .. أفديه بروحي وعينيَّا"، أو "نسر مصر ارتفع.. فوق جيش الوطن"، أو "والله زمان ياسلاحي"! حتى لو افترضنا جدلاً أن تحية الصباح حين كانت تقام، فهي تتم في عجالة؛ من أجل الوقت المضغوط؛ وانكماش "الحصة" إلى ربع الساعة، والاستيلاء على المساحة الخضراء ـ إن وجدت ـ لبناء خنادق تسمى بالفصول، يتم "رص" الأطفال داخلها مثل "علب السردين"! ولا تستهينوا بمثل هذه الكلمات البسيطة؛ ومدى تأثيرها في وجدان الطفل لتعزيز وترسيخ بذور هذا الانتماء بداخله . ناهيك عن ارتباط الطفل بالزي العسكري؛ حيث كانت "بدلة الضابط" هي الانتقاء الغالب على ملابس الأطفال في الأعياد، وكان الرد الفوري للسؤال الموجه إلى الطفل عن العمل الذي يريده مستقبلاً، فتكون الإجابة بكل الاعتزاز: "عاوز أبقى ظابط علشان أقبض على المجرمين وأعداء البلد"، والمجلات القديمة تمدنا بصور أبناء الفنانين أمثال إسماعيل يس وولده ياسين بالزي العسكري، وهو يحمل صورة رئيس الجمهورية.
وأذكر أن جيلنا تربى على قراءة قصيدة "مصر التي في خاطري"؛ المطبوعة على غلاف الكراسات المدرسية، وشُنفت آذاننا بسماع أغنيات الطفل الجميلة من عمالقة الغناء؛ إلى جانب الأغاني الوطنية الحماسية التى افتقدنا بريقها الآن، وانكمشت وتوارت "جينات الوطنية" بجلسات الأطفال خلف زجاج دكاكين الغزو الأمريكي لتناول وجبات الـ " تيك اواي"؛ بدلاً من السعي إلى قراءة كتاب بالمكتبات العامة أو المنازل، ويصبح التفاخر بزيارة تلك الأماكن بين الأقران سمة من سمات العصر، وكأن لسان حالهم يقول: "القعدة في كنتاكي.. ولا وطنية الكاكي"، والمقصود بالـ "كاكي" هُنا هو لون الزي الموحَّد للجيش المصري؛ مدرسة الأبطال والفخر لكل مصري، وهو لون مشتق من لون "رمل الصحراء" الذهبية على الحدود، ولكن أين تنمو شجرة الوطنية الحقة وسط هذا الهجوم الكاسح بكل مغريات العصرعلى العقل المصري والعربي عمومًا؟ ناهيك عن اللعَبْ والهدايا التي تمنح مع تلك "الوجبات السريعة" فهي عبارة عن "مسدس"، أو "بندقية"، أو لعبة بلاستيكية تمثل جندي قوي من جنود "المارينز"، أو "سلاحف النينجا"؛ لإعطاء المزيد من الإحساس بالدونية والقهر داخل المشاعر والأحاسيس للطفل وأحاسيسه "البِكْر"؛ التي يتم تشكيلها بدس السم في قوارير العسل!
وربما يتعلل البعض بأن الأسرة مسئولة عن تنمية الشعور بالانتماء للوطن ومقدساته؛ وتحميل الأسرة عبء هذا التشكيل في فترات النمو البدني والعقلي والمعرفي، نعم.. ولكني أقول إن على الدولة الدور الأكبر في صقل ودعم الأسرة أولاً، فكيف ينمو "العود الأخضر" في الرمال الجرداء؛ والخالية من مصادر ماء الثقافة الجادة؟ فكل خبرات الطفل تُستمد من خبرات الأسرة التي نشأ بين أحضانها، وعلى المؤسسات السيادية كوزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة وقنوات الإعلام المسموع والمرئي؛ إمداد المجتمع بالمادة الخام عن طريق تشجيع الشعراء والملحنين؛ للعكوف على إنتاج أغاني للطفل التي تتغنى بكل البطولات في تاريخ وطنه؛ والإضاءة على سيرة الأبطال الذين خاضوا معارك الكرامة والشرف في سبيل الحرية.
ولتكن تلك هي البداية لتحقيق حلم "علماء الاجتماع" في تثبيت بعض "أدبيات التربية" في أذهان الكوادر التي تقوم على تشكيل الإحساس الجمعي المصري؛ بما يحقق الإيجابية والاندماج مع توجهات الوطن ومقاصده في خلق جيل جديد يحمل بين جنباته روعة الانتماء والإخلاص لكل القيم السامية في الحياة.
ولن يتسنى هذا الذي نطمح إليه؛ إلا بفتح النوافذ لهواء الفنون النقي؛ ليدخل إلى قاعات الدرس والتحصيل، ليملأ الصدور المتعطشة إلى الخروج من "صومعة" الفكر المتخلف، ونبذ كل ماهو ليس معقولاً ولا مقبولاً في الكتب الصفراء؛ المكتوبة منذ آلاف السنين، والتي يتم فرض دراستها على الأجيال الجديدة؛ دون مراعاة لمتغيرات العصر المتسارعة في كل لحظة، والعودة إلى إطلاق ملَكَات الإبداع والابتكار في عقول الأطفال؛ وإعادة فتح "قاعات الرسم والصلصال"، و"قاعة الموسيقا" التي احتلتها المقاعد الخشبية الصمَّاء، لاتُنتج سوى عقول خاوية، أو تحمل كل موبقات الأفكار المتطرفة التي ابتلينا بها في الآونة الأخيرة.
إنارة العقول وتنمية الأفكار؛ تحتاج إلى جهود المخلصين في عالم الفنون والآداب والموسيقا، إلى جانب العلوم التقليدية، مع اكتشاف وتشجيع المواهب؛ وتوجيههم الوجهة الصحيحة لصقل مواهبهم وتعضيد إمكاناتهم الذهنية بالدعم المادي، وتوفير ما يحتاجونه من أبحاث وكتب في تخصصاتهم .
ولن يصيبنا الملل من تكرار هذا الطلب المشروع، لننعم ـ وتنعم أجيالنا الصاعدة ـ بكل قيم الحق والخير والجمال .. والحرية، فجائحة كورونا إلى زوال بمشيئة الرحمن، ليتنا نعيد ترتيب أوراقنا لغرس شجرة الوطنية في صدور أطفالنا من جديد!
____________________________________
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون
__________________________
الأهرام