رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف
هير نيوز هير نيوز
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف

بقلم أصيل الجعيد : الاقتصاد الحوكمي

هير نيوز

بقلم أصيل الجعيد : الاقتصاد الحوكمي.. لم يعد يكفي أن ينمو الاقتصاد؛ بل يجب أن ينمو بوعي. في زمن تتداخل فيه المصالح وتتسارع حركة رأس المال، لم تعد الأرقام وحدها كافية لقياس النجاح. ظهرت الحاجة إلى ما يمكن تسميته بالاقتصاد الحوكمي، وهو اقتصاد لا يكتفي بالإنتاج والاستهلاك، بل يدار بمنطق الشفافية، ويراقب بمنهجية المساءلة، ويعاد تشكيله بروح العدالة.

بقلم أصيل الجعيد : الاقتصاد الحوكمي.. لسنوات، تركت بعض الحكومات الأسواق تعمل وفق منطق «دعه يعمل، دعه يمر»، متنازلة عن دورها التنظيمي والرقابي. غير أن الأزمات التي عصفت بالعالم، من أزمة الرهن العقاري في 2008 إلى التقلبات الحادة في سوق العملات الرقمية، أثبتت أن السوق، حين يترك دون حوكمة، لا يتحول إلى فضاء حر، بل إلى ساحة فوضى مقنعة.

بقلم أصيل الجعيد : الاقتصاد الحوكمي.. لم يعد النقاش اليوم يدور حول ما إذا كان علينا أن نحكم الاقتصاد، بل كيف نحكمه، وبأي أدوات، ووفق أي معايير. الاقتصاد الحوكمي في جوهره هو إعادة الاعتبار لمبادئ الحكم الرشيد داخل المجال الاقتصادي: الشفافية، المحاسبة، سيادة القانون، التوازن المؤسسي، والاستجابة للمجتمع. هو ليس مجرد تقنين للقرارات ولا هندسة للإجراءات، بل بناء ثقافة مؤسساتية تحول الحوكمة من نصوص إلى ممارسات، ومن شعارات إلى بنى راسخة. هو انتقال من اقتصاد الأرقام إلى اقتصاد السلوك، ومن المركزية العمياء إلى التوزيع الواعي للمسؤولية.

بقلم أصيل الجعيد : الاقتصاد الحوكمي.. هذه ليست مفاهيم نظرية، فالتجارب الدولية اليوم تقدم نماذج حية لإدراك معنى الحوكمة في المجال الاقتصادي. سنغافورة مثلا لم تحقق نجاحها لأنها غنية بالموارد، بل لأنها حولت جهازها الحكومي إلى نموذج في الكفاءة. اعتمدت على شفافية شديدة في إدارة الميزانيات، وربطت الأداء بالمحاسبة، حتى صارت من أقل الدول فسادا وفق تقارير منظمة الشفافية الدولية عام 2023.

أما كندا، فقدمت نموذجا متطورا للحوكمة من خلال إنشاء مكتب مستقل للميزانية الفيدرالية يرفع تقاريره مباشرة إلى البرلمان دون تدخل من السلطة التنفيذية. هذا الشكل من الرقابة عزز ثقة المواطن بصحة الأرقام، وخلق توازنا بين السلطة والشفافية، كما ورد في تقارير OECD الحديثة.

بقلم أصيل الجعيد : الاقتصاد الحوكمي.. وفي ألمانيا، كانت الحوكمة الاقتصادية حاضرة بشكل دقيق في دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، حيث وفرت الدولة بيئة قانونية مستقرة لهذه المؤسسات، لكنها في الوقت نفسه فرضت قواعد صارمة على مجالس إدارات الشركات، وربطت الامتيازات الضريبية بمستوى الالتزام البيئي والاجتماعي، كما أشارت المفوضية الأوروبية في تقرير SME Performance Review لعام 2023.

أما السعودية، فقد اتجهت بقوة خلال الأعوام الماضية نحو تكريس نموذجها الخاص في الاقتصاد الحوكمي. في ظل رؤية 2030، لم تعد الحوكمة مجرد خيار إداري، بل أصبحت مسارا إستراتيجيا. تأسست مؤسسات رقابية جديدة، كالمركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة، وهيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وتم تطوير معايير واضحة لحوكمة الشركات الحكومية ومؤسسات القطاع الثالث، مع خطوات لرفع الشفافية المالية وإتاحة ميزانيات الدولة للجمهور.

لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في تأسيس الأطر، بل في تفعيلها. إذ لا معنى لحوكمة لا تمارس، ولا جدوى من نصوص لا تسري في روح المؤسسة. التحدي هو أن نحكم الحوكمة نفسها، أن نمنع تحولها إلى روتين بيروقراطي أو قشرة تجميلية، وأن نضمن أن تصبح ثقافة مؤسسية حية تنعكس في كل قرار، وفي كل إجراء، وفي كل علاقة بين المواطن والمؤسسة.

الاقتصاد الحوكمي لا يعني تدخل الدولة المفرط، ولا خنق السوق. بل يعني أن كل قرار اقتصادي، سواء من حكومة أو من شركة، يجب أن يسأل: من اتخذه؟ ولماذا؟ وكيف؟ ولصالح من؟ إنه انتقال من منطق الربح أولا إلى منطق الاستدامة أولا، ومن منطق الكمية إلى منطق الجودة، ومن اقتصاد يدور حول النمو، إلى اقتصاد يدور حول الإنسان.

فكما أن الدول لا تبنى على النفط وحده، فإن الاقتصاد لا يقوم على الأرباح فقط. ما يحتاجه العالم اليوم، خاصة في لحظاته المتأرجحة، هو نظام يدير المال بقيم، ويراقب النفوذ بعين القانون، ويمنح الثقة دون أن يفقد السيطرة. هذا هو الاقتصاد الذي لا يسقط مع أول أزمة لأنه بني على أساس لا تهزه الأرقام، بل تثبته المبادئ.

نقلا عن الوطن السعودية

تم نسخ الرابط