بقلم أنس الرشيد: المسجون في فيلم حر

بقلم أنس الرشيد: المسجون في فيلم حر.. من التحدّيات الصعبة والمُمتعة لمخرجي الأفلام أن تتحرَّك كاميرا فيلمهم الطويل في مكانٍ واحدٍ صغير دون أن يَفقِد المُشاهدُ المتعةَ والإحساس بالسَّعة في مكانٍ ضيق، وحين تتحرك السينما لتُحَوِل خمسين عامًا من عزلةِ أبي العلاء المعري إلى إبهار بصري واسع بساعة ونصف دون أن يشعر المشاهد بالملل فذاكَ ترقيصٌ لدهشةِ الكاميرا ودهشة المعنى العميق والواسع والمتجدد الذي عاشه المعريُّ مسجونًا في ثلاثةِ أبعاد، بيته وعماه وجسده.
بقلم أنس الرشيد: المسجون في فيلم حر.. تتحرك كاميرا الفيلم بتوتر داخل المُعتَزل لنرى أبا العلاء وهو يقرأ التوراة، لكنَّ زوايا الرؤيةِ تَخدعنا بمتعةِ كشفِ الحقيقةِ ببطءٍ، وكأنَّنا في قصرٍ واسع شاهق، لا بيتٍ كأنَّه قبر، تتحرك الكاميرا وكأنَّ فضاءَ البيتِ لا حَدَّ له، حتَّى تَضيق الزاويةُ عند يد المعري وهي ترتعش من المَرض، وهنا نكتشف أنَّ ما كان يقرؤه ليس التوراة نفسها، بل الكتابات التوراتية -تلك المتاهات من الحكمةِ والشكوى والحنينِ والغضب- ثم فجأة تتبدَّل الكاميرا بين لقطاتٍ منخفضة وأخرى مرتفعة، لتُرينا مكتبةَ المعري وقد صارت كلها توراة (أسفار موسى الخمسة، الأنبياء يشوع وصموئيل وإشعياء)، ثم تختفي كلها وتظهر يدٌ ترتجف وهي تكتب بقايا الكتابات، إلى أن تعود الكاميرا بهدوءٍ إلى المَعري وقد خفتَ الضوءُ عنه وهدأت رعشتُه، وصار كأنَّه بقايا ظلٍّ لجسدٍ غادر وبقيت صرخة وجعه صدى للمكان.
بقلم أنس الرشيد: المسجون في فيلم حر.. هذا الفيلم يقول لنا إنَّ بين كتابات المَعريّ والكتابات التوراتيّة جامعًا مشتركًا، هو مناجاة ما تبقَّى بعد الشَّريعة، هو ما يتسرّب من ألم الإنسان حين لا يجد حقيقةَ النَّص فيصرخ كي يجده في الصَّدى، ومن علامات هذا التَّشابه هو أنَّ الفيلم لمَّا أوهمنا بأنَّ المعري يقرأ التوراةَ وضع خلفَه مقولةً شهيرة توراتية هي «باطل الأباطيل، الكل باطل» وفي الوقت نفسه نسمع صوتَ المَعرّي الغاضب من شَيءٍ مجهولٍ وهو يعزف قولَه الشهير:
بقلم أنس الرشيد: المسجون في فيلم حر.. «في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدَانُ بها/ فهل تفرَّد يومًا بالهدى جيلُ»، ومن هذا المشهد يُجهّزنا الفيلم إلى طبيعةِ كتابات المعري التي تتقاطَع مع الكتابات التوراتية كالمزامير والأمثال وأيوب والجامعة ونشيد الأنشاد، إنَّه ينقلنا بصريًا لنرى المَعري يتَّجه نحو بابٍ صغير، ويتعكَّز على نتوءاتِ بيته الطيني المكسوِّ بالجصّ الأبيض مرددًا:
بقلم أنس الرشيد: المسجون في فيلم حر.. «تعبٌ كلها الحياة، فما أَعْـ/جَب إلا من راغبٍ في ازدياد»، وكأنَّه يضع حاشيةً على ما جاء في سفر أيوب: «لِمَ أعطيت شقاءً لذي تعب»، يَصل الشيخ إلى الباب فتموت إضاءةُ الكاميرا. ثم تُفتَح لتُجسّد الحياةَ اليومية للمعري داخل سجنه بسرديةٍ ساحرة مشحونة بالعاطفةِ المتضاربة.
الفيلم يُغلِّفُ الكتابات التوراتيّة بالموسيقى العربية، فلقد شَدّني صوتُ مزمارٍ حزينٍ يُغنّي:
بقلم أنس الرشيد: المسجون في فيلم حر.. صرختُ إليكَ يا ربِّ/ فأين اليَّوم ميعادك. ولم تكن هذه الترنيمة إلا تحريفًا بديعا لقول سفر المزامير «من الأعماق صرختُ إليك يا رب» لكن بعد (سَجْنها) في قالبٍ خليليّ، وهذه اللعبة السردية يُحبّها المَعري، فهو صَانع لزوم ما لا يلزم، صانع السجون في حرية باطلة. ولم يتوقف التشابه هنا، فالفيلم يعود بنا فجأة إلى المعري وهو يصرخ بعد أن مسَّه طائفٌ من الجِنّ ولم يَدر بأيّ اتجاه يتحرك في بيتِه الصغير ويردد بيتَه الكبير: «إن كان لا يحظى برزقك عاقلٌ/ وترزقُ مجنونًا فقد جُرتَ في القِسْمِ» تشابهت الصرختان؛ صرخة النبي داود وصرخة المعري، فبعد أن كانت التوراةُ تُمثّل كلمةَ اللهِ للإنسان، جاءت (الكتابات) لتُمثّل كلمةَ الإنسان لله، فرصتَه لأن يصرخ ويُخرج ما في داخله من ألم.
الفيلم أدخلنا بلسانِ المعري إلى سفر أيوب، وإلى الحوار المؤلم بين الإنسانِ والله، الإنسانِ الذي يشتكي من الظلم، ويسأل بلا كلل عن العدل، ثم تسحبنا كاميرا المخرج -دون أن نشعر- إلى سفر المزامير لتعزف به بكاءَ المعري في مَوجٍ كالجبال من مشاعر الحُبِّ والخوف والرجاء والغضب، الموجِ الذي يقول لنا إنَّ الكتابات التوراتية هي الجانب الوجودي في العهد القديم، وأنَّ الدواوين المعريّة هي الجانب الوجودي في العهد القرآني.
التفاتة:
اليهود أصحابُ العَهد القديم هم آباء المسيحيين أصحاب العهد الجديد، لكنَّ الآباء اليهود النُقّاد يرون أنَّ النَصَّ القديم (التوراة) لا يحتاج إلى وحي جديد (الإنجيل)، فهو مكتمل بذاته، والجديد في التوراة هو تجدد المعنى، أما المسيحيون فرأوا أنَّ العهد القديم يَعِد، والعهد الجديد يُحقِّق، لهذا أعادوا ترتيبَ العهد القديم بحيث تكون نهايته قريبة من بداية العهد الجديد، فتغدو رحلةُ العهد القديم دربًا إلى الخلاص بالمسيح. وللمعري كتاب سُمِيَ (الفصول والغايات) بالاتفاق، واختُلف في تكملة اسمه هل هو (في معارضة السور والآيات) أم (في تمجيد الله والمواعظ)؟ وللاختلاف الشاسع بين العنوانين رحلةٌ تُشبه العهدين القديم والجديد، ولا شكَّ أنَّ المعري يرى اكتمالَ القرآن، كما رأى المسيحيون اكتمالَ التوراة، لكن ما عَهْد المعري الجديد في مواويله ومعزوفاته التي منها: «وإنما حمّل التّوراة قارئها/ كسب الفوائد لا حبّ التِلاواتِ»؟