بقلم أنس الرشيد: من الحكمة أن تغلق المكتبة

في زمنٍ مضى فُتِحت مكتبةٌ على شارعِ عروة بن الورد، الشارعِ الذي يعيش في حاشية الحياة، شارعٍ مهملٍ كصاحبه «عروة الصعاليك». فُتِحت المكتبةُ على يدِ رجلٍ متقاعد عن العملِ الجادّ -كما وصفَ ذلك أحدُ روّادها المخلصين- وأقامَ عليها موظّفًا يَعرف خبايا الكتب، وشجرةَ عائلتها إلى الجَدّ ما قبل العاشر، ولم يكن راتبُه يكفي لتغطيةِ احتياجاته فكان يبتكر حلولًا تُدرّ عليه دخلًا إضافيًا، منها أنَّه يحتال في رفعِ سعر الكتبِ المترجمة إلى أجلٍ مسمّى حتى يحصل على مبلغٍ يُحقّق له بعضَ أهدافه، كهدفِ شراءِ أدواتِ إعدادِ القَهوة؛ ليضيفَ لزبائن المكتبةِ خدمةً يكون ريعها لجيبه الخاصّ.
اكتشفتُ هذه المكتبة بالصدفةِ حين كنتُ متّجهًا إلى فرع بنكٍ أزرق في زاويةِ شارعِ شيخِ الصعاليك الأحمر، وهذا يعني أنَّ للمكتبةِ الفقيرة جيرانًا أغنياء، وربما كان المالكُ يتمثّل بمقولة: «من جاور السعيدَ يسعد»، لكنَّ الواقع أنَّ المكتبةَ تزداد بؤسًا؛ إذ لمَّا دخلتُ المكتبةَ وجدتُ البائعَ متكدّرَ الخاطر، فسألتُه السببَ، فقالَ حينما كنتُ منشغلًا بالحديث مع أحد رواد المكتبة المهمّين، تغافلني زبونٌ لصّ ليُعبئ شنطتَه المحمولة بمجموعةٍ من الكتبِ غالية الثمن، ولمَّا انتبهتُ إليه في آخر لحظةٍ وحاولتُ أن أُوقِفَه قاومني بثقةِ العارف: «ليس من حقك تفتيشي»، وأنا الآن متورطٌ بتعويضِ قيمة المسروق، فبعد أن كنتُ أُعَوّل على دخلٍ إضافي، أصبحتُ أُدَاري عجزَ المبيعات عن صاحبِ المكتبة.
في الأثناء يدخلُ المكتبةَ أحدُ الحكماءِ الذين يَضعون نظاراتهم –ذات المرايا الدائريةِ الصغيرة– عند أرنبةِ الأنفِ، ويبدو أنَّه زبونٌ قديم ومعروفٌ للمكتبةِ فهو يَسألُ عن صاحبِ المكتبةِ بلقبٍ يحمل رموزًا حميميّة، وينظر باتّجاه أربعةِ نواحٍ في وقتٍ واحد، عين لناحيةٍ وعين لأخرى، والناحيتان الأخريان تتكفّل بهما عينا النَظَّارةِ القابعةِ عند الأرنبة، ومع كُلِّ هذه العيون لم يَنْتَبه لوجودي، بل رَفَع صوتَه بمناداةِ البَائعِ الحزين «خويلد»؛ ليُسلّمه ورقةً بحجمِ أوراقِ الطباعة (A4) لا يَكاد اللّونُ الأبيضُ فيها يُرى من كثرةِ التَّعديلِ عليها، لكنَّ البائعَ تكاسَل في حركته -ربما يأسًا من هذه الوظيفة، أو كرهًا لهذا الحكيم- ولمَّا وصلَ بحزنه الفاضح، اضطرَّ لسردِ حكايته، فرفع الحكيمُ نظارتَه قليلًا -لأنَّها انزلقت إلى أقصى أرنبته- وقال: «لا تحزن، فلكُلِّ شَيءٍ وجهٌ إيجابي». لمَّا سمعتُ كلمةَ لا تحزن تذكّرتُ كتابًا بهذا العنوان، كتابًا لا أنسى أني لمَّا قرأتُ ربعَه الأول وجدتُه يُثير الحزنَ على شيءٍ غير معلوم، ثم لمَّا حاولتُ إكمالَ الربع الثاني، لم أستطع من شدة الحزن، لهذا سميّتُ الكتابَ باسمه الذي أعتقد أنه أجدر به وهو (لا تفرح). انتفضَ البائعُ من قَولِ الحكيم: «فأيُّ إيجابيةٍ في أن أُسرَق»؟ شعر الحكيم أنَّه حانَ موعدُ الحكمةِ اليومي، الموعدُ الذي يُشبه مُضادًا حيويًا إذا لم تأخذه في موعده فسيفقد الجسمُ استجابتَه الدقيقة، لهذا كانت أرنبةُ الحكيمِ تتراقص: «دقّت ساعةُ الحكمة، الآن قُل ما فتحَ اللهُ عليك» ثم وضعَ يده على كتفِ البائع وقالَ: «أنتَ بعد هذه الحادثة ستضطرّ لشراءِ الكتبِ المسروقةِ مرةً أخرى، أليس كذلك؟» لم ينتظر الحكيم ردَّ البائع، بل أجابَ مباشرة: «بلى، بلى، وهذا يعني أنَّ هناك دورَ نشرٍ ووسطاء سيستفيدون من فعلِ هذا اللص، انظر إلى الوجه الإيجابي وهو أنَّ حركةَ الاقتصادِ تنتعش»، رفع البائعُ رأسَه بعد أن تأكَّد من انتهاء الحكمة: «أنا كنتُ أخطّط في نهايةِ الشهر لشراءِ آلةِ قهوة، ويبدو أنَّ هذا الهدف سيتأخر إلى أجلٍ غير معلوم، وهذا يعني أنَّ محلات بيع أدوات القهوة لن تستفيد، لهذا يبدو أنَّ الاقتصاد سيذبل». وبين انتعاش الاقتصاد بسبب دور النشر، وذبوله بسبب محلات القهوة، دخلَ زبونٌ إلى المكتبة، واستغلَّ انشغال البائع وبدأ بجمع كتبٍ ثمينة ووضعها في الشنطة حتى انتفخت كامرأةٍ حُبلى، ثم غادر.
تَعرَّضت المكتبةُ لخسائر فادحة، فأغلقت أبوابَها نهائيًا، وأحسبُ - وكثير من الحسبانِ جهل - أنَّ سببَ الإغلاقِ كثرةُ اللصوصِ الذين يتسلّلون من ثقوبِ ضجيجِ الحكماء، الحكماءِ الذين كُلَّمَا دخلوا المكتبةَ تَعرّضت لهزةٍ أرضيةٍ أفقدتها التوازنَ الاقتصادي، الحكماءِ الذين خزّنوا أسرارَ الاقتصاد في أرنبة أنفهم، لكنهم نسوا مواطئ أقدامهم بقربِ خزينة البائع المنكوب.
التفاتة:
المكتبة –في آخر زيارة لها– كانت ذات بابين تجاريين، وفي زاويتها مكانٌ صغير لآلةِ القَهوة، وقد قُسِّمت إلى منطقتين، الأولى فيها طاولتان صغيرتان جدًا لجلوسِ الزبائن، والثانية فيها ثلاثة ممراتٍ لتكديس الكتب، كل ممر يَحجب النَّظر عمَّا وراءه، ممتلئة بكتبٍ عشوائيةٍ تُشبه –إلى حدٍ ما– مكتبات المستعمل التي «لا تَردّ يَد لامس»، إلا أنَّ الغالبَ فيها الجانب التاريخي. وقد لاحظتُ أنَّها انتقلت إلى الجهةِ المقابلة من الشارع، فبعد أن كانت تفتح أبوابَها باتجاه الغربِ صارت تفتحها باتّجاه الشَّرق، ولا أدري هل السبب تغيّر توجه المكتبة الفكري بعد نصيحةِ أحد حكماء الشرق أم أنَّه بحثٌ عن إيجار أقلّ؟ لكنَّ الأكيد أنَّها أغلقت أبوابَها بعد زيارتي الأخيرة بفترةٍ قصيرة، وآكد من هذا أنَّها لم تُفارق شارع رمز الصّعاليك عروة بن الورد إلا إلى مثواها الأخير.
نقلا عن الوطن السعودية