«في عيد الميلاد المجيد 2023» ما حكم تهنئة المسيحيين بأعيادهم؟ «الإفتاء» تجيب
السبت 07/يناير/2023 - 10:48 ص
كمال الناحل
مع حلول الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، يسأل البعض عن حكم تهنئة المسيحيين بعيدهم، وهل في ذلك ما يتوافق مع الشرع، أم خروجا عليه؟
حكم تهنئة المسيحيين بأعيادهم
ويجيب عن ذلك السؤال، فضيلة الأستاذ الدكتور نصر فريد واصل، مفتي الجمهورية السابق، والذي قال: لا مانع شرعًا من تهنئة غير المسلمين في أعيادهم ومناسباتهم، وليس في ذلك خروج عن الدين كما يدَّعي بعض المتشددين غير العارفين بتكامل النصوص الشرعية ومراعاة سياقاتها وأنها كالجملة الواحدة، وقد قَبِلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدية من غير المسلمين، وزار مرضاهم، وعاملهم، واستعان بهم في سلمه وحربه حيث لم يرَ منهم كيدًا، كل ذلك في ضوء تسامح المسلمين مع مخالفيهم في الاعتقاد، ولم يفرق المولى عز وجل بين من المسلم وغير المسلم في المجاملة وإلقاء التحية وردها؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86]، والتهنئة في الأعياد والمناسبات ما هي إلا نوع من التحية.
اختلاف الملل والأشكال
لقد خلق الله الإنسان على اختلاف ملله وأشكاله وأجناسه من أبٍ واحد وأم واحدة «إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ»، كما جاء في "مسند الإمام أحمد" في خطبة الوداع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يفرق المولى عز وجل في الخلق ولا في الرزق بين مسلم وغير مسلم، ولقد جاءت الرسالات السماوية من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكلُّها يكمل بعضها بعضًا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ»، قَالَ: «فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» رواه البخاري.
الرسالات السماوية
كما أن الرسالات السماوية كلها تدعو إلى هدف واحد، وهو توحيد الله وعبادته، وترجو نتيجة واحدة هي الفوز بالجنة في الدار الآخرة، وإن اختلفوا في الأسلوب والطريقة الموصلة إلى ذلك، ومن المقرر شرعًا أن الإسلام لم يمنعنا من مجالسة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن؛ فقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، وأن نأكل من طعامهم وشرابهم، بل أكثر من ذلك أباح لنا الزواج منهم؛ فقال تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]، والزواج كما هو مقرر شرعًا ما هو إلا مودة ورحمة؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]، ومن غير المعقول أن يتزوج المسلم بامرأة من أهل الكتاب، ويطلب عندها المودة والرحمة، وتهنئه في عيده ولا يرد التهنئة في عيدها، ألم يكن ذلك مخالفة صريحة لنص القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86]، حيث إنه لم يفرق بين من يلقي التحية مسلم أو غير مسلم، والتهنئة في الأعياد ما هي إلا نوع من التحية.
الوصية بالجار
ولقد أوصانا الإسلام بالجار خيرًا سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم؛ فلقد ورد عن مجاهد أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ذُبِحَتْ له شاة في أهله، فلما جاء قال: أَهْدَيْتُم لجارنا اليهودي؟ أَهْدَيْتُم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، ولقد أكدت السنة النبوية الإحسان بالجار وعدم التطاول عليه وإيذائه؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الخطيب البغدادي، وفي حديث آخر: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أبو داود في "سننه".
فالإسلام لم يفرق بين أتباعه وأصحاب الديانات الأخرى، ومن ذلك: ما رواه البخاري في "صحيحه" أنه مَرَّتْ بِالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جَنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِىٍّ! فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟».
النبي قبل الهدية
وقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدية من غير المسلمين، وزار مرضاهم، وعاملهم، واستعان بهم في سلمه وحربه، حيث لم يحس منهم كيدًا، كل ذلك في ضوء تسامح المسلمين مع مخالفيهم في الاعتقاد، ولم يكن هذا التسامح نابعًا من اجتهادات فردية أو مآرب شخصية أو أمزجة نفسية، وإنما هي تعاليم ملزمة من الله سبحانه وتعالى ينال منفذها الثواب ويلحق مخالفها العقاب، فمكارم الأخلاق أصل من أصول الدين، والتزام الحق ركن من أركانه، والمسلم في أخذه بهذه المبادئ ليس له الخيرة في أن يطبقها متى شاء ويتركها متى شاء، بل هي ركيزة ثابتة وميزان منصوب يعامل به الكل على حسب ما عنده، لا حسب ما عندهم، كما أنه جاء في الأثر أن الجيران ثلاثة: جار له حق واحد وهو الجار غير المسلم له حق الجوار، وجار له حقان وهو الجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق وهو الجار القريب المسلم له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام.
الود والوئام
وعلى ذلك: فيجب أن يسود الود والوئام بين المسلمين وغير المسلمين وإن كانوا مختلفين معنا في الدين؛ لقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]، وقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].
ولقد أوجب الإسلام على أتباعه إذا عاش بينهم أهل الديانات الأخرى أن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين من حقوق وواجبات، وخير دليل على ذلك ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى شيخًا ضريرًا يسأل على باب، فلمَّا علم أنه يهودي، قال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وذهب إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول له: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفنا إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
مجاملة غير المسلمين وتهنئتهم
وعلى ذلك: فإن دار الإفتاء المصرية ترى أنه لا مانع شرعًا من مجاملة غير المسلمين وتهنئتهم أو مواساتهم في أي مناسبة تحل بهم، وأن هذا هو التطبيق الأمثل للإسلام، وليس في ذلك خروج عن الدين، أو فيه نوع من الحرمة كما يرى بعض المتشددين، فالدين يُسرٌ لا عُسرٌ، ولما ورد في "صحيح البخاري": «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ». ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.