بقلم أنس الرشيد: لماذا يكذب الصادقون

بقلم أنس الرشيد: لماذا يكذب الصادقون.. يُقال إنَّ الفرنسيين تداولوا مقولة «العرش حيث يجلس نابليون»، ثم بتأثير غزوات الإمبراطور رحلت المقولةُ إلى بلادٍ كثيرة، وصار أهلها يُوردونها عند كُل صغيرةٍ وكبيرةٍ في الاحتجاجِ للثقةِ بالنفس، والمفارقةُ أنَّه في كثيرٍ من الأحيان يأتي الاحتجاج بهذه المقولة في سياقِ فقدانِ الثّقةِ في النَّفس، وربما سبب ذلك أنَّ حكايةَ نابليون –التي تداولها الناس– متناقضة، فهي تقول إنَّ نابليون دُعِيَ إلى محفلٍ فأبطأ، وحين دخلَ جلسَ في أولِ مقعدٍ رآه، فهرع إليه الداعي: يا سيدي، مكانك الصدر، فقال له نابليون: الصدر حيث أجلس. والسؤال: لماذا احتاج نابليون –أساسًا– أن يقول هذه المقولة؟ إذ هو أمام أمرين الأول أن يكون المكانُ قد تَحوَّلَ إلى صَدرٍ مباشرة حين جلسَ فيه؛ لأنَّ هذا اعتقاد نابليون وواقع المقولة، وحينها لن يحتاج إلى قول: «الصَّدر حيث يجلس نابليون» فالجميع في المحفلِ رأوا أنَّ الصَّدرَ تَحوَّل إلى مكانٍ آخر، والأمر الثَّاني أنَّ المكانَ لم يتحوَّل إلى صدر وهذا ما جرى، فالدَّاعي هرولَ إليه ليدعوه إلى صدرِ المجلس، وهنا اضطرَّ نابليون أن يقول المقولةَ بعد أن فقدَ الثّقةَ بنفسه!، وستكون المقولةُ كاذبة؛ لأنَّها لم تَتحقَّق في الواقعِ، بل اضطرَّ نابليون أن يخترعها لما رأى أنَّ صاحبَ الدعوةِ والضيوف لم يقتنعوا أنَّ الصَّدرَ تَحوَّل من مكانه. ومن الملاحظ أنَّ لفظَ العرش –في المثلِ الفرنسي– تَحوّل إلى لفظ الصدر في الحكاية، وبين العرش والصدر علاقة الثبات والتحول، فالعرش له دلالة المكانِ الثابت، إذ هو سرير الملك، بينما الصَّدر صفةٌ عامة لمُقَدَّم كُلّ شيءٍ؛ لهذا يُمكِن أن يكون الإنسانُ نفسُه صدرًا إذا كان مُقَدّمًا في أمرٍ ما، وهذا ما يجعلني أحيل مقولةَ نابليون – كما غيَّرها العربُ المُحْدَثون واستخدموها – إلى منابعها القديمة المتَّسقة مع مفهوم التَّغير والتَّحول، ابتداءً من القرنِ الثاني الهجري عند الحَجَّاج بن أرطأة النخعي، القاضي الذي لمَّا قيلَ له ارتفع إلى الصَّدر، قال: «أنا صدر حيث كنت»، وسنُلاحظ أنَّ جملتَه تُركِّز على الأنا المستقلّة، بينما جملة نابليون تُركّز على المكانِ المُتعلّق بالأنا، والفَرقُ أنَّ الحجَّاجَ لا يُلغي إمكانيةَ أن يكون للمجلسِ أكثر من صدر، بينما نابليون يُلغي ذلك تمامًا، لهذا تقترح المقالةُ أنَّ بين الجملتين تاريخًا متصلًا له، بداية مع الحَجَّاج حين تَولَّى القضاءَ في مطلعِ العهد العباسي، ووثِق الناسُ به فصدَّروه فوثق بنفسه حتى اتُهِم بالرشوة، فضُعِّفَ حديثه ووصِف بالتدليس وأُخِّر عن صدر المجلس، ولما حضر في مجلسٍ تهكَّم به أناسٌ قائلين «ارتفع إلى الصدر»، فاضطرَّ لقول «أنا صدر حيث كنت»، ولم يقل «إنَّ الصدرَ حيث يجلس الحَجَّاج»؛ لأنَّه لم يكن كَذَّابًا، بل كان صادقًا مدلسًا، إذ للتدليس مستويات، منها الصدق المريب، كمثلِ لو جَلسَ أحدُ النَّاسِ بين صحويين فقال لهم «حدثني أبو راكان بحديث كذا وكذا»، وهو يريد أن يُخفي اسم ناصر القصبي، لأنَّه لو قال «حدثني ناصر القصبي» لارتجَّ المجلسُ رفضًا له، ولكلامه، ومن ثم تكذيب مرويته مهما كانت مهمةً وصادقة.
بقلم أنس الرشيد: لماذا يكذب الصادقون.. ومن مستويات التدليس الصدق الذي يُشبه الكذب كفعلِ أحد الأذكياء حين أخفى -في عز الصحوة- اسم غازي القصيبي من روايةٍ بلغته عن كذبِ الإخوان المسلمين وأساليبهم الموروثة عن الاستعمار، بمعنى أنَّ غازيَ القصيبي كان موجودًا في سندِ الرواية، ولكن لكي يتقبلها المجلسُ الصحويُّ الغاضب، أُسقِطَ اسمه من السَّند دون أن يُحسّ السامعون؛ لأنَّ السندَ دون غازي كان متصلًا، وجاء بلفظٍ محتمل للصدق بين الشخصين (الذي يسبق غازي والذي يعقبه).
بقلم أنس الرشيد: لماذا يكذب الصادقون.. هذه الطريقة معدودة من درجات التدليس، التي تُسمّيها المقالةُ الصدق الذي يُشبه الكذب، لهذا كان أبو جعفر النحَّاس يقول: لا حجةَ لحديثِ الحجّاج بن أرطأة إلا إذا صرّح بأخبرني وسمعتُ. أي أنَّه لا يكذب كذبًا صراحًا، بل يخدع النَّاسَ بحديثِ صدقٍ يُشبه الكذب، والخداع بهذه الطريقة صفة لنابليون، فمثلًا حين دمَّرت البحريةُ البريطانية أسطولَ جيشه الفرنسي، قال نابليون للجيش بعد أن أشار إلى جهةٍ في الأفق: «انظروا إنها أرضُ الفراعنة، الآن سننعم بكنوزها». وهذا كلام صدقٍ لكنَّه يُسقِط من الرواية أنَّ الأسطولَ الفرنسي تحطّم؛ لهذا فالمثلُ الذي وردَ في أول المقالة هو من صناعةِ المجتمع الفرنسي لمَّا رأى القوةَ العسكرية لنابليون، وأما الحكايةُ فهي مصنوعة بطريقةٍ تُشبه حكايةً عربيةً في الأندلس، تلك البلاد المجاورة لنابليون وقصص شعبه. مفاد الحكاية أنَّه في القرن السادس الهجري كان هناك رجل اسمه علي بن أضحى الهمداني، بدأ حياته قاضيًا فترقَّى إلى قاضي القضاة بغرناطة، فارتفع قدره عند الناس، وعلا شأنه في نفسه، حتى صحَّ له القيام بأعمال ملك غرناطة، ووصل به الكِبر إلى حدٍّ يُقارب ما وصلَ إليه نابليون، لكنَّه خاب وخسر.
بقلم أنس الرشيد: لماذا يكذب الصادقون.. وقد روى ابنُ خلِّكان أنَّ ابن أضحى دخلَ مجلسًا يغصُّ بالناس، فاضطرَّ إلى الجلوسِ في آخر المجلس، وأخذ يُنشد الشعر: «نحن الأهلة في ظلام الحندس/حيث احتللنا فهو صدر المجلس».
إنها الحكايةُ نفسها التي يُوردها النَّاسُ عن نابليون، وكأنَّهم لم يرتضوا النهايةَ المأسويةَ لعلي بن أضحى فجعلوا حكايتَه لإمبراطورٍ غازٍ قويّ البأس، ملأ السمعَ والبصرَ، وهم بهذا التحريف يأملون أن يتغيّر مغزى الحكاية من فُقدانِ الثّقةِ بالنفس إلى الاعتدادِ بالنَّفس، ولكنه –كما يبدو– تحول إلى كوميديا في علم النفس.
التفاتة:
بقلم أنس الرشيد: لماذا يكذب الصادقون.. لم يُمهل الموتُ عليَّ بن أضحى ليكون ذا شأنٍ كنابليون، فيغزو ويحتلّ كما يُريد ويطمح، وربما لو أمهله –وكانت فلسفةُ هيجل فلسفةً عربيةً – لقال أحد فلاسفة الأندلس عن علي بن أضحى:
«رأيت روحَ العالم على صهوةِ جواد»!!