رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف
هير نيوز هير نيوز
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف

بقلم سارة طالب السهيل: رمضان في مصر حياة

هير نيوز

تتجاوز فرحة رمضان في مصر حدود الصوم والعبادة؛ إنها احتفالية إنسانية تختزل قرونًا من التاريخ وتُعيد إحياء روح التكافل. فبينما يترقب المسلمون حول العالم الشهر الكريم بقلوب خاشعة، يتحول رمضان في "مِصْرُ المحروسة" إلى لوحة فسيفسائية من الألوان والأصوات والروائح، حيث تتداخل العبادة مع الفرح، والتاريخ مع الحداثة، في مشهدٍ لا يُشبه سوى روح الشعب المصري الذي يحوّل الثلاثين يومًا إلى حكاية تُروى بكل اللغات: لغة الإحسان، ولغة التراث، ولغة البهجة التي لا تُضاهى.

تغمر الفرحة قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بقدوم شهر رمضان. لكن.. (رمضان في مصر حاجة تانية). فأنا لم أرَ في حياتي مثل المصريين في رمضان، وكأن هذا الشهر يوم زفافهم، فكل واحد منهم يتحضر للثلاثين يوماً وكأن كل يوم منهم يوم عيد وبهجة.

رمضان.. حيث يصبح الكرم "لغة"

لم أرَ في حياتي كرمًا يُجارِي كرم المصريين في رمضان؛ فها هو الفقير يُنفق مما أُوتي كأنه الغني، والأغنياء يُفيضون عطاءً كأنهم يخافون ألا تأتي اللحظة المناسبة لِتُلامس أيديهم يد المحتاج.

هنا، لا يقتصر الكرم على المال، بل يتعداه إلى الوقت والجهد والقلب. فموائد الرحمن تمتد من أحياء القاهرة الفاطمية إلى قرى الصعيد، والكرتونات الغذائية تنتقل بين الأيادي كرسائل حبٍ مُغلفة بالأرز والسكر. حتى الأطفال يشاركون بفوانيسهم وابتساماتهم، وكأنهم يقولون: "الكرم هنا لا يُقاس بكمٍّ، بل بقلبٍ يَنبض بالعطاء".

لم أرَ بحياتي كرمًا تحديدًا على المحتاجين مثل العطاء الذي يهطل كالمطر العزيز من الفقير قبل الغني لمعاونة الفقراء والمحتاجين وتفقد الأهل والجيران والأحبة. لم أرَ في حياتي حبًا لرسول الله وآل بيته وصحابته الثقات مثل حب المصريين لهم، ويظهر ذلك في رمضان تحديدًا.

عبق التاريخ: من الفاطميين إلى شارع الخيامية

لا يُمكن فصل بهجة رمضان المصري عن جذوره الضاربة في التاريخ. فمنذ عهد الفاطميين، تحوّل الشهر الكريم إلى ميراث ثقافي تُحافظ عليه الأجيال. كان الخليفة الفاطمي يُضيء شوارع القاهرة بالمصابيح الفضية، ويُوزع الدنانير على العامة في مواكب مهيبة. اليوم، لا يزال شارع الخيامية بالقاهرة الفاطمية يحمل نفس العطر: حرفيون يصنعون الفوانيس يدويًّا، وأقمشة مطرزة تُزيّن البيوت، وأصوات المنشدين تتعالى من مسجد الحسين كأنها امتدادٌ لابتهالات سيد النقشبندي. حتى "مدفع الإفطار" الذي يُعلن لحظة الغروب ليس سوى حكاية ترويها الأجيال عن تجربةٍ عرضية لأول مدفع أطلقه والي مصر محمد علي، فأصبح تقليدًا يُخلّد اللحظة.

يرتبط شهر الصوم في مصر بعادات وتقاليد موروثة لم تفلح فضاءاتنا الإلكترونية وعولمة كوكبنا في القضاء عليها في مصر بصفة خاصة، إلى الدرجة التي يشعر بها أي زائر لمصر وكأنه يعيش أجواء تاريخية ساحرة مضى عليها قرون ولكنها لا تزال باقية وخالدة في الذاكرة الجمعية للشعب المصري.

وقد توارث المصريون الاهتمام والبهجة بشهر الصوم عن الحكام الفاطميين الذين كانوا يقيمون الاحتفالات بليلة الرؤية بإنارة المساجد وتعليق المصابيح. وكما ذكر حسن عبد الوهاب في كتابه (رمضان): إن الحاكم بأمر الله أمر بصناعة تنور هائل من الفضة الخالصة لإضاءة محراب الجامع الأزهر في ليالي رمضان.

وتراث الفانوس الذي اشتهر في مصر انتقل منها إلى العديد من العواصم العربية والإسلامية، يعد رمزًا من رموز شهر الصوم، إلى جانب المسحراتي وموائد الإفطار، وكلها من موروث مصر الفاطمية التي لم يتخل المصريون عنها حتى يومنا هذا.

الفرحة التي لا تعرف النوم

"رمضان في مصر حاجة تانية"، كما يقول المَثل الشعبي. فبعد الإفطار، تتحول الشوارع إلى كائن حيّ: مقاهٍ تفيض بالحياة، وأطفال يلعبون بالكرات الملونة، ونساء يُزيّن الشاي بالنعناع أمام المنازل. حتى السَحَر له طعمٌ آخر: فالمسحراتي لا يزال يطرق الأبواب بِدُفّه وصوته النديّ، وكأنه يردد صدى تاريخيًا من أيام إسحق بن عقبة. أما دار الأوبرا، فتُضيء سماء القاهرة بأمسيات دينية وثقافية، بينما تُنافس المسلسلات الرمضانية على قلوب المشاهدين، وكأن الشهر كله "ليلة واحدة كبيرة".

مصر المحروسة الحديثة تبث ثقافتها المبهجة في شهر الصوم في كل حي وحارة، وتستعيد ذاكرتها مجد هذا الشهر مع أغنيات الصوم التي تملأ الأركان في الشوارع والمحال التجارية مثل (مرحب شهر الصوم ليالك عادت بأمان)، و(رمضان جانا)، وابتهالات سيد النقشبندي (رمضان أهلاً... مرحباً رمضان).

وفي المناطق الشعبية التي يترابط أهلها، يخصص الناس يومًا لإفطار جماعي لكل العائلات في نفس الشارع، فكل عائلة تعد ما تستطيع من طعام، حيث يتناول جميع سكان الشارع طعام الإفطار مع بعضهم. والمشهد الثقافي والفني في مصر يشهد تألقًا وابداعًا في شهر الصوم بما تقدمه دار الأوبرا من ابتهالات وأمسيات دينية وثقافية تغذي العقول والأرواح.

التكافل.. حيث يُصبح الغريب أخًا

الأجمل في رمضان المصري هو أنه يُذيب الفوارق. فالمسيحيون يشاركون المسلمين تعليق الزينة، والأغنياء يجلسون بجوار الفقراء على موائد واحدة. حتى المرضى في المستشفيات لا يشعرون بالغربة؛ فالشباب يتسابقون لزيارتهم وتقديم الهدايا. وفي الأحياء الشعبية، تتحول الأفنية إلى "مائدة جماعية" يضع كل بيت فيها ما تيسر، في مشهدٍ يُجسّد قول النبي: "مَثَل المؤمنين في توادهم كالجسد الواحد".

ويشارك أقباط مصر إخوانهم المسلمين فرحة شهر رمضان ويساعدونهم في تعليق الزينات والفوانيس في الشوارع والبيوت، بل والكثير منهم يقدم وجبات إفطار للصائمين المسلمين في لمّة إنسانية فريدة.

شهرٌ يُعيد كتابة الزمن

رمضان في مصر ليس مجرد زمنٍ عابر، بل هو حكاية تُكتَب كل عام بحروف من نور. حكاية تبدأ بالفانوس وتنتهي بالعيد، لكنها تظل محفورة في الذاكرة الجمعية كشهادة على شعبٍ يعرف كيف يحوّل الروحانية إلى فرحة، والتاريخ إلى حياة، والعبادة إلى فنٍّ للعيش. وكما قال الشاعر: "مِصرُ.. إنْ غاب عنها النيلُ، فَرَمضانُها نيلٌ آخرُ يَجرِي بِالبهجةِ".

شهر البهجة في مصر المحروسة يعيد كتابة الزمن بكل تفاصيله، من عبق التاريخ في منطقة المعز لدين الله الفاطمي وشارع الخيامية، إلى الفلكلور المصري في أبهى صوره. وما أجمل قضاء شهر الصيام في مصر المحروسة، صدق ما تُغنى به: (رمضان في مصر حاجة تانية).

تم نسخ الرابط