الجمعة 31 يناير 2025 الموافق 01 شعبان 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

بقلم أنس الرشيد: ديمقراطية المقبرة

الخميس 30/يناير/2025 - 11:00 م
هير نيوز

يُنسب لعامر بن شراحيل الشعبي، أنه قال «ظَهْر الأرضِ للأحياء وبطنُها للأموات»، بقسمةٍ تجعل للأرض وجهًا آخر يُوازي الوجه الذي نعرفه، فليس للأموات مكان آخر غير الأرض، ويُزعم أنَّ ثقافةَ العربِ شحيحةٌ في فلسفةِ القبر، لا تتجاوز حدود التأويل البلاغي في مثل قولهم: «إنَّ الميتَ يتأذى من جار السوء كما يتأذى الحيُّ من جاره» إلا أن هذا الزعم فيه نظر، فالعرب أعطوا للقبر فلسفةً يتحقق بها قول القرآن: «ألم نجعل الأرض كفاتا/أحياءً وأمواتا». هذا القول القرآني يجعل من قول الشعبي سياقًا ثقافيًا يُمثل نظرة العرب آنذاك؛ فقد أجمعوا على (وجوبِ) دفنِ الميّت، ولم يُفرقوا بين إنسانٍ وآخر، وكأنَّ القبرَ شرطٌ لبدء مرحلة أخرى، وكأنَّه أيضًا ردٌ على ما فعلَه البطالمة في وضع عقوبةٍ تنصّ على إمكانيةِ حرمانِ الميّت من الدفن، وهذا الجدل بين الثقافات مهم لتبيان أنَّ الحيَّ يشعر بأنه لا يُمكن أن يرى حقيقةَ الوجه الآخر إلا بعد أن يُوضَع في باطنِ الأرض، وليس مِن توقُّفِ أعضائه عن تنفسِ الحياة، لهذا كانَ العربي الحي حريصًا على سَنّ قوانين تخدمه في ذلك العالم، كاختيار الأرض المتماسكة للقبر لحماية (حياة الموتى) من انهيار، واختيار الأرض البعيدة عن مجاري السيول وحُفَر الآبار، وأن تكون الأرضُ بعيدةً عن النجاسات بأنواعها، والرطوبة، ومستودعات المياه الملوثة، وأفضل الأماكن لهذه الشروط أن تُجعل القبور في صحراء شاسعة يصفها العربيُّ ابن تيمية بـ«تحت السماء»، في لغةٍ تُناقض مفهومَ القبر وهو ما (تحت الأرض)، والمقصود بلغةِ ابنِ تيمية ألا يكون القبرُ تحتَ سقوف المنازل والقبب، لأنَّها أماكن الأحياء وصورة لظاهر الأرض، وفي هذا تعريضٌ بثقافاتِ شعوب أخرى، كالفراعنة والصينيين والرومان، إذ الفراعنة أول من حاول أن يجعل القبر مثل البيت الكبير، فحنَّطوا الأجسادَ ووضعوها في قبر كأنَّه منزلٌ شيَّده صاحبُه ليعيش فيهإلى الأبد، وكأنَّ شرطَ أن تَرى ما يجري في ذلك العالم الآخر وجودُ الجسد الذي هو علامة وجه الأرضِ الظاهريّ، ولم يكتفِ الفراعنةُ بذلك، بل جعلوا مع الجسدِ المُحَنّط تمثالًا منحوتًا للرأسِ من مادةٍ لا تفنى، وكانوا يُركّزون على صفاتِ الرأس المُمَيّزة، أي أنَّهم يُغيّرون الشكلَ الطبيعي للميت، وكأنَّهم قد رأوا أشكالَهم الجديدة في العالم الباطني فوضعوا الميتَ على صورتها؛ لهذا قيلَ إنَّ معنى نحّات -في اللغةِ المصريةِ القديمة- هو «مَن يُبقي على الحياة»، إلا أنَّ هذا العالم الباطنيّ ظلَّ مجهولًا ما دام لا يلتقي -بالتجربة العلمية- مع طريقِ الظَّاهر، وهذه حجةُ العلم التجريبي في تَركِ التفكير بهذه المعتقدات، لكنَّ الفلسفةَ تُصِرّ على العودة إلى التفكير بالقبر؛ لأنَّه مكانٌ صالح للتجربة، أي المعادل الموضوعي لظاهرةِ الموت.

وأغرب تجربةٍ أجريت في هذا الشَّأن قيام أحد الفلاسفة الفرنسيين بمغامرات جنسيّة في مقبرةٍ (عربيّة)، ولمَّا سُئل عن هذا الأمر قال بلغةٍ مُشوّشَة: «إنَّه يريد أن يُفكّر بالجنس وهو بين القبور»، وربما كان اختياره للجنس تحديدًا؛ لأنَّ فيه اتصالًا مباشرًا والتحامًا، وهذه طريقة لمحاولة جعل ظاهر الأرضِ كباطنها، أو جعل الأرض شيئًا واحدًا، ليس ثمة باطن يَخفى، وقد يقول معترضٌ «هذا ضَربٌ من الجنون»، وربما لم تكن الفلسفة يومًا إلا طرائق المجانين في تفسير العالم، لكنَّ السؤال: ما هي الصفة الأساسية لسُكّان القبور؟

ربما هي (التَحدّث بحرية)؛ فسكانها انتقلوا من عالم السلطة والإكراه إلى عالم آخر نظنّه حرًا بالمطلق من قيود عالمنا، ونعلم أنَّ مكانَ هذا العالم الحر هو المقبرة.

هذه الصفة الأساسية لسُكان القبور تُحيلنا إلى مفهوم (الباريسيا) أحدُ المبادئ الأساسيّة في ديمقراطيّة أثينا، ويعني التَحدث بحرية، ولكنَّ السؤالَ الذي يُطرح لمواجهةِ هذا المفهوم: هل النَّاس متساوون في حريةِ التَحدّث كما في عالم القبور؟ أو هل الرغبة - المحركة لصعودِ الناس واستلامهم زمام الأمور متساوية عند الناس؟ انتهى المطافُ بالفلسفةِ إلى قول إنَّ رغبتكَ -أيُّها الإنسان الحيّ - محكومة بمكانك في العالم ومكانتك، وأفق الخطاب الموجود في حدودِ عالمك، فإما أن تدفعكَ الرغبةُ إلى الأمام أو توقفك كما أنت.

إذن حرية الأشخاص في التحدّث، أو قول الحقيقة، محكومة بالخطاب، وهذا ما يجعل للقبرِ أهميةً في وعي الفيلسوف، لأنه تَخلَّصَ من عبءِ الخطاب المتناقض في عالم الأحياء، وهذا ما سُمِّي عند بعض الفلاسفة لعبة قول الحقيقة وهي: (الجميع حر بالتحدث = ديمقراطية. البعض حر في التحدث = باريسيا)، وسنكون حينها أمام تناقض: الجميع حُرٌّ بالتحدث، لكن الجميع ليسوا أحرارًا بالتحدث. وهذا ما ليس موجودًا في أذهاننا عن عالم القبور. ويُمكِن لنا -نحن الأحياء- أن نسأل: ما قيمةُ مفهومِ الديمقراطية طالما أنه مخترق بالتناقض؟ قيمته أن نعرف جانبًا مهمًا من حياة ما بعد الموت، وهو زوال التناقض، ومن المفارقات أنَّ فيلسوف المقبرة المذكور آنفًا، كان مثليَّ الجنس، وربما لم يفعل ذلك صدودًا عن النساء، بل لأنَّه يُتلِف المعنى السلطوي المؤسَس على الغيريّة. ألم نَقُل إنَّ الفلاسفةَ مجانين؟ إذن ليس على المجنون حرج.

التفاتة:

هل يُمكن أن نضع مقابل مقولة (الباريسيا) الإغريقية؛ مقولة (الإرادة والقدرة على الاختيار) في النموذج العربي الإسلامي؟ ألا نلاحظ أنَّ الناسَ -هنا- يقولون: «فعلتُ ما عليَّ، والباقي على الله»؟ فمن كان مؤمنا -كإيمان المسلمين- يُفترض أن يقول: «كله على الله» وليس الباقي فحسب، فما بالهم -إذن- يقولون ما قالوا؟ هل هو شيءٌ من الإحساسِ بالتناقض، أو لعبة قول الحقيقة التي ذُكِرت في المقالة؟

نقلا عن الوطن السعودية

ads